حضور الروميّ وشمس تبريزي في الثقافة العربيّة

 

تقديم

                                                                 أ.د علي الشابّي

وزير الشؤون الدينيّة في تونس

ورئيس المجلس الإسلاميّ الأعلى الأسبق

 

خبِّراني عن نيل مصرَ فإنّي                    منذ فارقْتُه إلى الماء صادِ



هذا البيتُ للشّاعر الصّوفيّ الكبير أبي الفضل النّحويّ (ت513هـ) جاء صدرًا للقطعة التي قالها في التشوّق إلى مصر عقب رجوعه منها إلى بلده (توْزر) بتونس وهو يهفو إلى القيام بزورة أخرى، ويُحيلنا إلى عطاء النيل الذي هو عطاءٌ متعدّد لا يحصره ألق جماله وعذوبة سلسبيله، وإنّما هو مُقتضًى للتّعدّد الدّلاليّ الذي تفيض به الصورة الفنّيّة وللرمز والإيماء اللذين ينبني عليهما الشّعر، وفي هذا السياق كان لأبي الفضل في أثناء زيارته لمصر لقاء مع بعض علمائها على عادة العلماء التّونسيّين حين يَفِدون إلى مصر، كما كان له لقاءات مع بعض متصوّفيها من أذواق وما يلتمع في أعطافهم من أشواق، وعلى ما تمثّله النخبة المصريّة عامّة عبر زكيّ إسهامها وزاخر إبداعها في البناء الحضاريّ للإسلام، وهو أمرٌ حَظِي لدى النخبة التونسيّة على مَرّ القرون بالتقدير والإعجاب إلى حدّ أنّ التونسيّ عندما يذكر (الشرق) فإنّما يقصد بالدرجة الأولى مصر دون سواها.

أبو الفضل النّحويّ الصوفيّ الظامئ أبدًا هو الذي تدخّل لدى ابن تاشفين وجعله يعدل عن إذنه بحرق إحياء علوم الدين للغزالي (ت505هـ) في المغرب والأندلس، وهو صاحبُ المنفرجة التي أضحت أنموذجًا يُحاكَى بالمعارضة، ويُؤَكد بالشرح والتشطير والتخميس، ومطلعها:

اشتدّي أزمةُ تنفرجِ            قد آذَنَ لَيلُكِ بالبَلَجِ

وظلامُ الليلِ له سُرُجٌ        حتّى يغشاه أبو السُّرُج

ولأنّ جمال الشعر يكمن في ثراء احتماليّته وتعدّده الدّلاليّ وانفتاحه على التأويل المتجدّد فإنّ هذا الصّوفيّ الظامئ أبدًا هو ظامئ إلى سلسبيل النيل وظامئ إلى علم علماء مصر وعرفان متصوّفيها وإبداع شعرائها.

لم يكن هذا اللقاء هو أوّل لقاء معرفيّ عرفانيّ بين طرفين تونسيّ ومصريّ أحكم الوصل ووثّق القُربى وأذكى الشوق لأنّ اللقاءات بين النّخبتيْن ظلّت متواصلة منذ مطلع الإسلام. وحَسْبي هنا أن أقف عند لحظة فارقة في تاريخ التّصوّف جمعت بين صوفيّيْن تونسيّ ومصريّ في أواخر القرن الثاني الهجريّ وثّق بينهما الحبّ الإلهيّ والمعرفة الذوقيّة والقيم السّامية وبهجة التوحيد، هذان الصّوفيّان هما: شقران بن عليّ (ت في أواخر القرن الثاني) وذو النّون المصريّ (ت245هـ) لقد قَدِم ذو النون إلى القيروان للقاء العابد الصّوفيّ شقران بن عليّ الذي ذاع صيته في مصرَ ونبَهَ ذِكْره خاصّة بين العابدين المتبتّلين وأهل العرفان. وتعدّدت اللقاءات بينهما خلال أكثر من أربعة أشهر قضاها ذو النّون مستمعًا لآراء شقران، متسائلًا تارة ومحاورًا أخرى [المالكيّ: رياض النفوس، ج1 ص ص 313-318] فأثمرت هذه اللقاءات تلك النظرية الصوفيّة التي صاغها من بعد ذلك ذو النّون المصريّ مؤسَّسة على المقامات والأحوال والحبّ الإلهيّ والمعرفة الذوقيّة الكشفيّة التي هي إلهامٌ موهوبٌ أو نفثٌ في الرّوْع، وتلك هي البداية الحقيقية للتصوّف الفنيّ، ويتبيّن من خلال هذه النظريّة أنّ التصوّف إشراقة روحيّة قوَامُها الحبّ الإلهيّ الذي هو لُبّ المعرفة الذوقيّة.

لقد أصبح للتصوّف بهذه النّقلة الفنّيّة الكاشفة لنفاذ البصيرة وتألّق الخيال وتأجج الوجدان شأنٌ آخر. فقبل نظريّة ذي النّون لم يكن التصوّف إلّا زهدًا قاطعًا عدا شذرات لا تؤسس لمعرفة إلهاميّة ولا تصدر عن حال صوفيّ متوهّج، كما لا تُسْلِم إلى حقّ اليقين، وإنّما هي ألصق بالمواعظ وأقرب إلى النّصح والإرشاد. إنّ ذلك التطوّر الحادث قد أكسب التّصوّف طابعه الفنّيّ لأوّل مرّة فكان الفاتحة لما عرفته هذه النظريّة من بعد ذلك من إغناء أسلمها إلى بحر المعرفة أعني حقّ اليقين (وحدة الشهود، وحدة الوجود، الاتحاد الحلوليّ) كما كان المدخل إلى بحث قضيّة أساسيّة في التّصوّف من خلال هذا التساؤل: هل تتقدّم المعرفة على الحبّ أو العكس؟



إنّ كتاب الباحث القدير الأستاذ خالد محمّد عبده هل سمعت الناي يشكو آلام الفراق: حضور جلال الدّين الرّومي وشمس تبريزي في الثقافة العربيّة يتنزّل في هذا الإطار، ذلك أنّ شغف المؤلّف بالدراسات الشرقيّة وكَلَفَه بالتّصوّف تذوّقًا ودرسًا يعكسان ما دأبت النخبة المصريّة على تحقيقه في شغف وشدّة .... وهو إغناء الحضارة الإسلاميّة برؤى الفكر ومُذْهَبات الإلهام ورائعات الإبداع. فهو قد اعتمد وفرة من المصادر والمراجع في مختلف اللغات الشرقيّة والغربيّة جَلّى بها تأثير قطبين من أقطاب التصوّف شمس الدين التّبريزيّ وجلال الدّين الروميّ في مسيرة التّصوّف الإسلامي، كما بيّن تأثير جلال الدّين في الضمير العالميّ حيث تحلّق الدارسون حول تراثه يترجمونه تارة ويشرحونه تارة أخرى مستلهمين من بدائع فكره وروائع شعره ومُحكَمِ خطابه طمأنينة القلب وسموّ الروح. لقد أقام الأستاذ خالد هذا العمل العلميّ على توثيقٍ دقيقٍ ومنهجٍ وثيق، فمن حيث التّوثيق تعدّدت مصادره ومراجعه، وقد أكّد فيما اعتمده على أهمّيّة المصادر العربيّة التي تناولت التصوّف المولويّ، وهي بما حفلت به من آراء وتحاليل فنّيّة وفلسفيّة تمثّل إضافة حقيقيّة للدراسات المولوية، وتتصدّر هذه المصادر العربيّة ما أبدعته المدرسة المصريّة ذات الريادة في الدّراسات الشرقيّة من أبحاث شملت الأدب والتاريخ والتّصوّف جميعًا، ويرجع الفضل في ذلك إلى رائد هذه المدرسة الفكريّة ومؤسّس المعهد العالي للّغات الشرقيّة وآدابها بجامعة القاهرة الأستاذ عبد الوهّاب عزّام.

ومن حيث المنهج اعتمد المؤلّف منهجًا تحليليًّا مقارنًا، مبيّنًا به مدى صحّة الخبر أو ضعفه، وواضعًا في الاعتبار خلفيّة صاحب الخبر المذهبيّة التي كثيرًا ما سخّرت الخبر أو حرّفته تحقيقًا لمصلحة أو درءًا لمذمّة. وبما أنّه منهج تحليليّ فهو مرتبط بالنقد ارتباطًا غير منفكٍّ، وهذا ما أبان عنه الباحث في ردّه للقول بإسماعيليّة شمس وجلال الدّين الذي تكلّفه عارف تامر ومصطفى غالب، وفي نقده للندويّ الذي لم يضف جديدًا إلى ما كتبه شبلي النّعمانيّ بشأن علم الكلام عند جَلال الدّين، ولا يصدّه عن النقد الرأي السائد أو ذيوع الذّكْرِ فما انتهى إليه نيكلسون وهو قوله بأمّيّة شمس واعتماده على الإلهام دون سواه ناقضه الباحث مستدلًّا بما في كتاب شمس المقالات من آراء كلاميّة وفلسفيّة وبما جاء فيه من ردود نقديّة وتعاليق لا يمكن أن تصدر عن أمِّيّ بأيّة حال.

لقد أحالني هذا الكتاب إلى ذكريات سَنيّة صيغت في رِحاب قسم اللغات الشرقيّة وآدابها بكلّية الآداب بجامعة القاهرة حيث تتلمذت على أيدي أساتذة عظام هم تلاميذ الأستاذ الكبير عبد الوهاب عزّام، وهم الأساتذة يحيى الخشّاب ومحمّد عبد السّلام كفافي وأحمد السعيد سليمان وحسين مجيب المصري وأحمد محمود الساداتي، كما تتلمذتُ في ذات القسم للأستاذين الكبيرين محمّد مصطفى حلمي وأبي الوفا الغنيميّ التفتازانيّ.

وفي السنوات الجامعيّة (1956-1960) شملت دروس أستاذي محمّد عبد السلام كفافي علم التّصوّف والأعمال التطبيقيّة المتعلّقة به ممثّلة في تعريب نصوصٍ لسنائي وفريد الدّين العطّار وحافظ الشّيرازيّ وتعريب نصوص من كَلستان وبوستان لسعدي الشّيرازيّ ونصوص من المثنوي لجَلال الدّين الروميّ. لقد كان تعريبه للمثنويّ وتحليله لمضامينه الصوفيّة عروجًا روحيًّا تنعدم به الفواصل بين التّصوّف والفلسفة وعلم الكلام، وتزكو به تجلّيات الصور الشعريّة وآفاق المجاز المترف. كلّ ذلك توافر لنا بثقافة الأستاذ العميقة وبفكره الثاقب، وصوفيّته المنطلقة وشاعريته البديعة، إذ كان دقيقًا في تعريبه، رائعًا في تحليله، غائصًا في بحار التّصوّف، لاقطًا دُرَرها، يُغريك بالغوص معه مهما شطّت الأعماق، ويستنفد منك الجهد للظفر بخفيّات المعاني، وبالعروج إلى آفاق من التأمل يصبح معه الفناء الصوفيّ من أجل البقاء مقصدًا أسنى. ولقد كانت دروسه الأساس لتعريبه المثنوي من بعد ذلك.

وما أورده الأستاذ خالد محمّد عبده بشأن اعتبار الأستاذ كفافي المثنويّ أثرًا فنّيًّا قبل كلّ شيء ومصدرًا للاطلاع على القيم الإنسانيّة والخلقيّة التي انبثقت من الحضارة الإسلاميّة هو ما كان يلفت أستاذنا نظرنا إليه باستمرار، ومعنى ذلك أنّ الشاعر الصّوفي بإشراق حاله وألق ذوقه النابع من كونه صوفيًّا وكونه شاعرًا في آنٍ هو مبدعٌ للصورة والتصوّر معًا: مبدعٌ للصّورة الفنّيّة التي يتضافر في تشكيلها الخيال والموسيقى وجماليّات الأنظمة اللغويّة، ومبدعٌ للتصوّر الشهوديّ الذي يثمره العشق الإلهيّ والذي به يتحقّق للصّوفيّ متاعٌ روحيٌّ ليس كمثله متاع، وقد تميّز جلال الدين الروميّ في هذا السياق بذوقه المرهف المتوهّج وخياله الخلّاق حيث شكّل صورته الفنّيّة وتصوّره العرفانيّ بمزيج آسر من العشق والموسيقى والحكمة والقيم السّامية والشهود مما أكسبه تميّزًا في العرفان وتألقًا مبهرًا في الشعر مستمدًّا من زكاء احتماليّته وسخر غموضه واقتضائه للتأويل المتجدّد بحيث لا يمكن السيطرة عليه بمعنى قاطع بأيّة حال، فهو القائل:

  والمعنى في الشعر لا يكون خاليًا من الغموض

  كحجر المقلاع لا يمكن السيّطرة عليه

فالتميّز في العرفان وإعلاء القيم، والتألّق في الشعر جعلا من كتابه المثنوي مرجعًا للإنسانيّة جمعاء، لا ينقطع مدّه ولا ينكفئ تأثيره، فحين كتبه لم يكتبه لزمنه فقط وإنّما كتبه أيضًا للقرون القادمة، وحقًّا ما قال: "إنّه هديّته للقرون".

لقد أزال الباحث القدير الأستاذ خالد محمّد عبده الحجب عن حضور جلال الدّين الرّومي وشمس تبريزي في الثقافة العربيّة بما تضمّنه تأليفه الذي أسّسه على البحث العميق والاستقصاء اللافت والتحليل الصائب فجاء وافيًا بالغرض محقّقًا القصد مهيّأً للعاشقين الألهيين سفرًا روحيًّا ممتعًا يزكو به الوجدان وتُشرق به البصيرة وتُنال أسنى المقاصد وأبعدها شأنًا.

 

 

تعليقات

المشاركات الشائعة