القرآنُ الصاعدُ: أذكارُ مولانا جلال الدين الرومي



القرآنُ الصاعدُ: أذكارُ مولانا جلال الدين الرومي
بقلم: خالد محمد عبده



سأل أحدهم مولانا جلال الدين الرومي كيف تذكرون الله؟ وما هي أورادكم؟ فأجابه في إيجاز قائلاً: إنّنا منتسبون إلى الله، أتينا منه وإليه ذاهبون، وإنّ ذكرنا هو الله ولا شيء سواه.
ويُروى عنه أنّه قال: مجالسنا على التحقيق صمتٌ، وذكرنا قلبيّ وروحيّ وسريّ، فلا مدخل للألسنة في ذكر القلب والروح والسر؛ فالفكرُ ذكر القلب والعشقُ ذكر الروح والمعرفة ذكر السر، فإذا وصل الإنسان إلى ذكر الروح يلزمه السماع لأن السماع قبل وصول الذكر إلى الروح لا ينفع بل يضر؛ لأنه يحرّك هوى النفس ويسوق النفس إلى محبة السِّوى ويزيد الغفلة عن الله تعالى.
يتساءل البعض ما معنى الوِرد وما هي الأوراد الصوفية؟ وما الحاجة لالتزام الإنسان بورد معين؟ ألا يمكن للمسلم أن يكتفي بالصلاة المفروضة فحسب؟ أليست الأوراد الصوفية مجرد بدع مستحدثة لم تكن في المجتمع الإسلامي المبكر؟ ويدور سجال طويل بين الصوفية وخصومهم حول موضوعات كهذه طيلة الوقت، وللأسف يكرر الجميع كلامًا لا معنى له اليوم، لذا سنضرب صفحًا عن كلّ هذا السجال محاولين أن نتعرف في هدوء وأناة على فكرة الأوراد عند مولانا جلال الدين الرومي، وهل كان لهذا الصوفيّ ورد معين التزم به في حياته الصوفية ولقّنه لمريديه وتابعت الطريقة المولوية نهجه من بعده؟
البرنامج الصوفي لعمل اليوم
الورد هو برنامج للذكر اليومي، فاليوم عند الصوفي ينقسم إلى صباح ومساء، أو إلى ليل ونهار، ولا بدّ أن يعمّر الصوفي وقته بذكر الله. ويكون الذكر بقراءة القرآن أو الدعاء أو ترديد أسماء الله الحسنى، وأغلب الأذكار مما ورد في السنة الشريفة أو المأثور عن الصحابة رضوان الله عليهم، وأغلب الطرائق تلتمس لأورادها سندًا من الكتاب والسنة، وقد لاحظ غير واحد من المتابعين للطريقة المولوية على اختلاف العصور أن مبنى هذه الطريقة على دوام الاشتغال بالذكر والسلوك والمحبة، ومن شأنهم الذكر الخفيّ مع حبس النفس والدوران.
يؤمن أغلب الصوفية أن الالتزام بالأوراد سبب لدوام الوارد عليهم من الأذواق والفتوحات ودوام التوفيق في طريق السلوك، والمداومة على الأوراد سبب للوصل، ويضرب إسماعيل حقّي البرسوي صاحب تفسير روح البيان لذلك مثلاً بالنهر: ألا ترى أنّ النهر إنّما يصل إلى البحر بسبب إمداد الأمطار والثلوج التي في الجبال، فلو انقطع المدد فقد المرام ومن هنا حافظ العبّاد والسالكون على الأوراد في الليل والنهار وجعلوها على أنفسهم بمنزلة الواجبات، ولذا لو فات عنهم ورد الليل قضوه في النهار، ولو فات عنهم ورد النهار قضوه في الليل، حتى لا ينقطعوا دون السبيل، فإنّ من عرف الطريق إلى الله لا يرجع أبدًا عنه، ويحبّ أن يكون من أهل اليقظة والشهود والواصلين إلى مطالعة الجمال في كلّ مشهود.
وتروي مشايخ الصوفية وأهل القصص والحكايات روايات عن أشخاص تركوا أورادهم ليلة أو نهارًا فحذّروا في مناماتهم بعاقبة ذلك، ورأوا أحلامًا عجيبة جعلتهم يدركون بعدها أهمية الحفاظ على الأوراد! إن مثل هذه الحكايات لا تزال تُروى للمريدين في بداية الطريق أو للمحبّين بحسب رتب المولوية، فالمحبُّ هو سالك مبتدئ يخوض تجربة التصوف عبر برنامج معدّ بطريقة محكمة، حتى يغتسل من كلّ ما سبق، ويولد ولادة جديدة!
ويسرد مولانا في المثنوي قصّة يوضّح فيها أنّ قول المريد "يا الله" هو عين قول الحقّ تبارك وتعالى "لبيك" وينبّه في أثناء حديثه على عدم ترك الذكر فإنّ من يترك الوِرد يلق الشدائد ويهوى في المصائب والملمات! وله رباعية يتحدث فيها عن هذا المعنى قائلاً:
اعلم أيّها الإنسانُ العاقلُ علم يقين، ويا أيّها الإنسان العاشق أنّه لا سبيل إلى المسلم أن يكون في مذهب العشق كافرًا، فالبدنُ والإيمانُ كلاهما ثاويان في العشق، وإنّ العقل والقلب والروح ليسوا مجال بحث أو مناقشة، وإنّ الإنسان الذي لا تصيبه هذه الحال لا يكون عاشقًا على أي صورة من الصور!
فالعاشق عند مولانا لا يصبح عاشقًا دون وِرْدٍ أو ذكْرٍ يلتزم به في نهاره وليله!
أذكار المولوية
كيف يمكن للعاشق أن يكون مقيّدًا بقيد معين؟ كيف نحدد له صورة منتظمة مرتبة لا بدّ أن يكون عليها؟ هل كان الرومي ملتزمًا بوِردٍ معيّن حافظ عليه طيلة حياته ولقّنه للمريدين في حياته؟ إننا لا نعرف بشكل مؤكد مجموعة الأوراد التي كان يرددها الرومي، ذلك أن أغلب المصادر التاريخية التي اهتمت بحياته ومناقبه لم تخصص لهذه المسألة حديثًا مفصّلاً، لكن المراجع التي اعتنت بالحديث عن مولانا والطريقة المولوية عنيت بذلك فيما، لكننا لا نعدم بعض المرويات التي تشير إلى التزام الرومي بأدعية وأوراد معينة، ومن ذلك ما يرويه الأفلاكي في كتاب المناقب أن مولانا  كان كثيرًا ما يردد دعاء النبي صلى الله عليه وسلم التالي كوِردٍ من أوراده:
 ربِّ اجْعَلْ فِي قَلْبِي نُورًا وَفِي قبَرِي نُورًا ومِنْ أَمَامِي نُورًا وَمِنْ ورائي نُورًا وَعَنْ يَمِينِي نُورًا وَعَنْ شمالي نُورًا ومِنْ فَوْقِي نُورًا وَمِنْ تَحْتِي نُورًا وَفِي أُذنِي نُورًا وعيني نورًا وشعري نورًا، وجِلدي نورًا وَلحمي نُورًا ودمي نُورًا وعظمي نورًا... ثم يقول بعد هذا الدعاء المأثور: لا تخش أحدًا إلاّ الله وهو المعبودُ الذي يُلاذُ به في كُلِّ مُلمّةٍ ومُصيبةٍ، ونشكره على كُلِّ النّعمِ، وننزّه الله عن صفات النقصان. وعندما أسمعُ وأرى شيئًا مدهشًا وعجيبًا أستغفر الله وأتوب إليه! وعندما أقترف ذنبًا أقول: حسبي الله وأعتمد وأتوكّل عليه، وأرجع إليه في كلّ أموري!
وعند التحقيق نجد أن هذا الدعاء وهذه الكلمات التي رددها مولانا مدوّنة في أوراد المولوية المرتّبة، التي جُمعت ونُسّقت بعد مولانا بفترة، وما زالت هناك نسخ مخطوطة من هذه الأوراد عُرفت بـ (الأوراد الصغيرة، والأوراد الكبيرة)، وقد قدّم كُلبينارلي في مؤلفه الكبير عن مولانا والمولوية وصفًا له، مشيرًا إلى أن هذه الأوراد متتبعة خطى الطرق الصوفية الأخرى، وبصورة خاصة الطريقة النقشبندية.


إنّ من المؤلفات التي كُتبت عن الطريقة المولوية وآدابها كتاب التحفة البهية للطريقة المولوية، لطرابزونلي كوسج أحمد دده (ت 1777م = 1911هـ) أحد شيوخ المولوية في وقته، وقد لقي كتابه عناية من المحبّين لطريق المولوية فاضطلع الشيخ غالب دده (ت 1797م) بكتابة لهذا الكتاب بعنوان: "الصحبة الصافية". وعند تصفحنا لكتاب كوسج دده سنجد أنّه خصص فصله الأوّل للحديث عن كيفية تلقين الذكر وآدابه، ذكر في هذا الفصل أنّ مولانا كان يشتغل باسم الذات (الله) ويلقّنه للمريدين.
ويؤكد كوسج دده كلامه بذكره لحوار معين الدين بروانه مع مولانا، فقد سأل بروانه مولانا ذات يوم قائلاً: إنّ لكلّ واحدٍ من المشايخ الماضية اسمًا من أسماء الله تعالى يداوم الذكر به، فما هو الاسم الذي تذكرونه في طريقتكم؟  فأجاب مولانا: نحن نذكر في طريقتنا (الله الله الله)؛ لأنا ننتسب إلى الله ونجيء من الله ونذهب إلى الله ونترك ما سوى الله لأجل الله، وكان والدي سلطان العلماء كذلك يذكر الله الله. فلمّا كانت الطريقة المولوية طريقة الجذبة فلا يحتاج السالك فيها إلى النفي (لا إله إلا الله)، وإنما يلزمه أن يذكر اسم الذات فحسب (الله).
ثم يتحدث الكتاب عن كيفية تلقين الذكر، وضرورة أن يكون هذا التلقين على يد شيخ من مشايخ المولوية حتى ينفع له الذكر ويصل به إلى الله تعالى! وبعد تلقين الذكر يقطع الشيخ بالمقراض ثلاث شعرات أو أكثر من ناصية المريد أو من شاربه هكذا ورد في السُّنة. والحكمةُ في ذلك قطع علائقَ المريدِ عن الدنيا.
ماهية الأوراد المولوية
يفتتح مخطوط الأوراد المولوية والمعروف بالورد الكبير لمولانا بدعاء: (اللهم أنت السلامُ ومنك السلام وإليك يعودُ السَّلام، فحيّنا ربّنا بالسلام، وأدخلنا دارك دار السلام، تباركت ربّنا بالسلام وتعاليتَ. لك الحمدُ يا ذا الجلال والإكرام. سبحانك ما عبدناك حق عبادتك يا معبود. سبحانك ما عرفناك حقّ معرفتك يا معروف، الحمد لله على التوفيق وأستغفر الله على التقصير).
وثمة آيات قرآنية كثيرة في مخطوط الأوراد، منها: آية الكرسيّ وسورة يس والليل والضحى والتين والبيّنة والزلزلة والكوثر والكافرون والفاتحة وآيات أخرى من سورة البقرة، كما تُذكر أسماء النبيّ وأسماء الله الحسنى، ويُلحق بالمخطوط غزلية مشهورة في الأدبيات الشيعية هي غزلية "نادِ عليًّا مظهر العجائب". ولمخطوط الأوراد المولوية شرح باللغتين العربية والتركية أحسن فيه مصنفه بتأصيل كلّ وِردٍ فيه على ضوء كتب التصوف السابقة للرومي، ككتاب قوت القلوب لأبي طالب المكي، والرسالة القشيرية وإحياء علوم الدين.


مأثورات من كلمات مولانا النورانية:
1-     الكافرُ والـمؤمنُ كلاهما يقولُ: يا الله، لكنّ بينهما فرقًا شاسعًا. فذلك الفقير الشحاذ السائل يقول: يا الله من أجل الخبز، بينما يقولها الـمتَّقي من لُبّ الروح. ولو كان الفقير الشحّاذُ السائلُ يعلم (حقيقةَ) ما ينطق به، لم تبق (قيمةٌ) أمام عينيه لقليل أو كثيرٍ. إنّه يقول "يا الله" ذلك الطالب للخبز لسنوات، إنّه كالحمار يحمل الـمصحفَ من أجل التِّبنِ. ولو أنَّ قول شفتيه انعكس نوره على قلبه، لتفتَّتَ جسده إلى ذرات. واسم الشيطان يؤتِي (للسحرة) طريقًا في فعل السِّحرِ، وأنت تريد أن تكسبَ الدَّوانقَ من اسم اللهِ (الشريف)؟
2-     يا أيُّها الـملك الذي لا تاج له ولا عرش، ومن يستطيع سوى فضلك أيُّها الودود أن يفتح قفلًا ثقيلًا كهذا؟ ونحن حوّلنا رؤوسنا من أنفسنا إليك، لأنّك أقرب إلينا منّا. ومع مثل هذا القرب فنحن بُعداء بُعداء، فأرسل النور في مثل هذه الظلمة. وهذا الدعاء عطاؤك أيضًا وتعليمك، وإلا فمتى تنمو روضة من مستوقد؟ ومن بين الدم وألْمَعيّ الفهم والعقل، لا يمكنهما إلا من إكرامك النقل. ومن قطعتي شحم هذا النور السيار (نور العينين)، يضرب بموج نوره فوق السماء. وقطعة اللحم التي هي اللسان، يجري منها سيل الحكمة مثل النهر. وذلك صوب ثقب يسمى بالأذن، حتى بستان الروح ثماره الألباب. والطريق الرئيسي لبستان الأرواح شرعه، وبساتين العالـم ورياضه فرع له. وهذا بعينه هو أصل السعادة ونبعها، وسريعًا ما "تجري من تحتها الأنهار".
3-     أنك ظننت أن لعبادتك أجرًا. وَعندَما أُذِنَ لك بالِّذكر والدُّعَاء، امتَلأ قَلبُكَ بالغُرور من هَذا الدُّعاءِ. ورأيتَ نفسك أيضًا متحدثًا مع الله، وما أكثرَ الذين أبعدوا من جرَّاء هذا الظنِّ. والـملكُ حتى وإن جلس معك على الأرض، اعرف (قدر) نفسك واجلس بأدبٍ أكثر.

تعليقات

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة