في معنى التصوّف وأن يكون المرء صوفيًّا


في معنى التصوّف وأن يكون المرء صوفيًّا

بقلم: خالد محمد عبده



 "وبعد أن تخصّ هؤلاء فاعمم بأجمل تحيّةٍ سائر ذوي الفضل من الصوفية، فأنّهم ملوك الدنيا وسادة الآخرة". مثّل التصوّف عند أبي حيّان التوحيدي الناطق بهذه العبارة في كتابه الإشارات "فعلٌ أكبر من اسمه وحقيقته أشدّ من رسمه" نظرًا لما عاينه من اهتداء الصوفية إلى كثير من المبادئ الروحية السامية التي يمكن أن تحقق للإنسان مبتغاه في علاقته مع الله ومع خلقه. قد تكون هذه الرؤية محل اعتراض عند البعض، نظرًا لارتباط التصوّف بالدروشة وما يطرحه الإعلام عن هذه الفئة من كونهم أهل شعوذة ودجل وسحر، أو أهل تواكلّ وقعود عن السعي وسبب من أسباب التخلف! وقد يكون قارئ العبارة من المخاصمين للفكر الصوفي بسبب ما ورثه من مذهبية ترى أنّ أهل التصوّف أصحاب عقائد منحرفة. إلا أننا حين نكتب عن التصوّف اليوم لا نبدأ من مسلّمات أو موروثات قديمة، ولعلّ هذا هو سمت إنسان اليوم، فقد لفظ كثيرٌ منّا الموروث لعدم إشباعه لحاجاته، وثار عليه، وأراد أن يكوّن وجهة نظره بنفسه من خلال مطالعة وسعي حقيقي.
ولعل هذا هو ما جعلنا نحاول أن نكتب عن معنى التصوّف -كما نتصوره- ونسلّط الضوء على بعض قيمه الإنسانية التي نراها قيمًا صالحة للنظر والتطوير، وهي محل اتفاق من تيارات التصوّف في الشرق والغرب، بل هي غاية من غايات كلّ إنسان أراد أن يشهد الحياة الحقّة، وينشر ثقافة الحياة بين الناس.
التصوّف قلب الإسلام وغصنه الحيّ الذي يُسقى بماء الإيمان والصدق.
 التصوّف امتداد لخلوة النبي في غار حراء.
 التصوّف استمرارية لدعاء النبي في الطائف (اللهم إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، أنت أرحم الراحمين، إلى من تكلّني، إلى عدو يتجهمني، أو إلى قريب ملكته أمري، إن لم تكن غضبان علي فلا أبالي، غير أن عافيتك أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، أن تنزل بي غضبك، أو تحلّ علي سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك).
التصوّف تحقيق لمعنى (اللهم اجعل في قلبي نورا، وفي سمعي نورا، وفي بصري نورا، وعن يميني نورا، وعن شمالي نورا، وأمامي نورا، وخلفي نورا، وفوقي نورا، وتحتي نورا، واجعل لي نورا). حتى يجعلني ربّي نورًا لي ولغيري.
التصوّف إحياءٌ لسنة أب الأنبياء إبراهيم فهو النموذج الصوفي الأعلى (وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ) أسلم إبراهيم النفس وقال إني مهاجرٌ إلى ربّي فسافر إلى الغربة لله وبذل الطعام للضيف واشتغل بعد ذلك بالتفكّر ليصل إلى الحقّ إذ لم يكن له شيخٌ يسأله تعبير ما رآه، رأى الكواكب والنجوم والشمس، فلما أفلت جميعها قال حبيبي منزّه عن صفات الآفلين، شاهد بعدها الحقّ وتيقّن وأسلم وجهه له، فصدح بما وقر في قلبه (وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ، حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) واتخذه الله خليلا.
التصوّف التفاتة إلى صلب التعاليم الإسلامية وروح الرسالة المحمدية، إذا غاب الإنسان عن المعنى الحقيقي أعاده التصوّف إليه، فلا ينساق وراء غرائزه ويتعلل بالأحكام والمباح والجائز، يعوّل على قلبه وضميره، ليصل إلى مقصود غال ونفيس، لا إلى عَرَضٍ زائل وغير نافع.
التصوّف ليس قراءة للكتب أو ترديدا للكلّمات الدينية أو إعلانًا بأنّ الحق هو ما يجري على لسان واحد فحسب، بل هو عيش وحياة لما صوّرت جزءًا منه الكتب.
لكلّ لفظ من ألفاظ الصوفية سندٌ من الكتاب والسنة لمن أراد أن يبحث عن دليلٍ عما قالته المتصوفة، لكنّ الصوفي لا ينشغل بالدليل، رغم عيشه معه، يوصّله ويعبر به، ثمّ يسلك حياته، وسواء أعلن عن تجربته أو أخفاها، رَمَز أو أبان وأطنب، هو يتكلّم بما عاش، فقيمة المرء عند هؤلاء القوم حديث قلبه وعمله.
التصوّف أرحب من المذهبية والإيديولوجيات
معنى أن تكون صوفيًّا :أن تترفّع عن العنصرية والعصبية والخصومات المذهبية، وأن تعرف أن شعار "نحن على الحقّ، ومن سوانا على الباطل ومن أهل الزيغ والضلا" شعارٌ مضللٌ وقاتل لفكرة الإخاء الإنساني! لم تكن الصوفية الكبار وأهل التجارب الثرية يفعلون ذلك! فالحقّ لم يكلّف واحدًا منهم بأن يتحدث باسمه، أو يتكلّم نيابة عنه!
شعار الصوفية ليس الحديث باسم ربّ العالمين، بل الحديث معه والإشارة إليه، أمّا الله سبحانه فقد تحدّث عن نفسه ووصف نفسه بأنه (أكبر، وأوسع، وأرحب، وألطف) من الفرق والأيديولوجيات ومن كلّ شيء (قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً ؟ قُلِ اللَّهُ).
 أدرك الصوفية القدامى حقيقة أنّ (الاختلاف رحمة) وأنّ كلّ الألوان موصلة إلى الحقّ .. يقول مولانا جلال الدين الرومي في كتابه المثنوي: فإنْ أنت وضعت عشرة مصابيح في مكان واحد، فقد يكون كلّ منها مختلفًا في صورته عن الآخر. ولكنك لا تستطيع أن تفرّق بصورة قاطعة بين نور كلّ منها إذا نظرت إلى نورها. وأنت إذا عددت مائة من ثمّار التفاح ، فإن هذه لا تبقى مائة، بل تصبح واحدة حين تعصرها.
 معنى أن تكون صوفيًّا: لا يعني التصوّف السلبية والتنكّر للواقع! إنّ سلبية التصوّف فكرة مغلوطة.. ظهرت بسبب فهم خاطئ لمقولات الصوفية تمّت قراءتها بعين المخاصم للتصوف أو المطالع لأدبياتهم بعين غريبة .. وبصورة خاصة ما قيل عن التوكل والفناء في المحبوب. فأكثر الصوفية الكبار وأصحاب التجارب على أنّ التوكل حالة للنفس الراضية التي تسلّم قلبها إلى ربها في كافة أمورها، فلا يكون لشؤون الدنيا سلطان على القلب يجعل الإنسان أسيرًا لكلّ طارئ ومتغيّر ؛ فيحوّل بسط قلبه إلى قبض وتوتر دائم، يصرفه عن الأولى والأهم. فالتوكلُ عندهم لا ينافي السعي في الحياة، بل إن مشاركتهم في الواقع الدنيوي وعلوم عصرهم تؤكد أنّ السعي مطلوبٌ والطعنُ فيه خطيئةٌ. يقول القشيري في الرسالة: التوكلُ محلّه القلبُ، والحركة بالظاهر لا تنافي التوكلّ بالقلب. ويقول مولانا جلال الدين الرومي: إنّ لك يدين فكيف تخفي أصابعك .. إنّ لك ساقين فكيف تجعل من نفسك كائنًا أعرج؟!
معنى أن تكون صوفيًّا: بعد أن كان الإنسان يضرب خيمته في سمّ الخياط ولا يجد مخرجا أو فكاكا من حاله، يولّي ظهره للعالمين كلّيهما ولا يلتفت إلى المزعجات التي لا تنتهي، ليعرج في مئة عالم جديد، ليتعرّف على كنزه المخفي الغائب، الكنز الذي ينكشف له بألف ألف وجه بعدد أنفاسه، وعندما يسترد نفْسه فلن يأسى على شيء، فأعظم الأشياء معه، ومن أدرك نفسه وحاجتها عرف مقصوده وربّه، وكفّ عن طلب سواه.
معنى أن تكون صوفيًّا : أن ترجو الخير للبشرية كلّها دون إقصاء لفريق أو مذهب أو جماعة من الناس، وإن خالف فكرهم ما تؤمن به أو تدعو إليه.. فالصوفي يؤمن بالوحدة ولا يعتقد في التفريق .. البشر جميعًا ينصهرون في جسد واحد.. وما يصيب أحدهم يؤلمك.. يدعو مولانا جلال الدين الرومي للبشرية قائلا: يا ربنا! أنزل على هذا العالم الماء الطهور، حتى تصبح جملة ناره نورًا.  وفي هذا المعنى يقول سعدي الشيرازي في كتابه روضة الورد: بنو آدم جسدٌ واحدٌ.. إلى عنصر واحد عائد.. إذا مسّ عضوا أليم السقام.. فسائر أعضائه لا تنام.. إذا أنت للناس لم تألم.. فكيف تسمّيت بالآدمي.
الصّوفيُّ هو المُسافرُ فِي المَعْنَى! يخلقُ الصّوفيُّ اللغة خلقًا جديدًا، فهو وإن آمن بالسرمدية والخلق القديم، إلّا أنّه لا يرضخ لكلّمات وعبارات يشملها قاموس المعجميين، فهناك قبل الكلّمة حرفٌ، وللحرف ألف ألف معنى، وإن عبّر الحرف عن صورة المعنى، فهناك من (المواقف) و(المخاطبات) و(المشاهدات) ما لا يُعبّر عنه بـ(حرف) ولا (ينقال)! كـ(لوحة) فنان بديعة عاش صاحبها ما رسمه واقعًا، وصارت رمزًا يحتمل آلاف القراءات من ناظريه.
الصّوفيُّ هو المشغول بنفسه وعللها وأمراضها، بغية علاجها والترقّي بها في مدارج الكمال، شُغل الصّوفي بكلّ تفصيلة دقيقة من شأنها أن تعكّر صفو حياته، أو تعوق مسيرة تقدّمه في الحياة، وآمن الصّوفيُّ أنّه كلّما ازداد قربًا من نفسه، اقترب من ربّه، وكلّما عرف نفسه عرف ربّه، ومن العلم البشري والعلم الإلهي تكتمل معارفه بهذه النفس! ولو قارنّا ما يقول الصوفي عن النفس بما تقوله علماء النفس، لأدركنا أنّ من أهل التصوّف من كان على دراية بطبّ القلوب الذي نحن في أمس الحاجة إليه اليوم، ولو أفدنا منهم لغنمنا الخير الكثير.
ما يحدث للصوفيّ في حال اللقاء والحضرة والإلهام لا يمكن وصفه بجميع اللغات، وإن كان للصوفية دور في تطور اللغات بأن خلقوا لسانًا غير الألسنة المعروفة يسميه البعض لسان المحبة والجمال، إلا أنّ هذا اللسان يعجز عن التعبير كما تعجز الأرض عن احتمال مياه الطوفان والسيول فتغرق.. ويمكن وصف هذا الغرق بالغرق اللذيذ الذي يستمتع به الصوفي أيّما استمتاع ويشعر بنشوة لا يمكن أن يشترك معه فيها سوى أمثاله .. يخبرك الفنان عبر رسمه وألحانه عن بعض هذه النشوة وهذا الشعور.. لكنك لا تعي ما يقوله الصوفي إلا إذا شاركته الحياة!
  معنى أن تكون صوفيًّا اليوم أن تختار لونًا من ألوان التدين يتّسم بالسعة والرحمة والجمال والحبّ، في النظر إلى الخالق والمخلوقات، تتخلّق فيه بالتواضع وترى الكلّ عيال الله، تحمل قلبًا أبيض كالثلج يخفف عن الناس آلامهم. يسبح الصوفي في قلوب العباد بعد أن أدرك الفارق بين الجاري والراكد والدرّ والزائف .. يحيا قوله تعالى: "إنك كادح" "فملاقيه" وما يحصل عليه بعد كدحه يحاول أن ينقله لغيره ببساطة دون تعقيد. لا يهب الصوفي نفسه إلا لربّه ومحبوبه.. لا يبيع نفسه لـ"أنا" متضخمة أو "سُلطة زمنية مؤقتة" بعد أن تعلّق قلبه بالمفارق لكلّ صورة. لا يستغل الصوفيّ غيره، رجلا كان أو امرأة، وإن سلّم الجميع نفوسهم المتعبة بين يديه وصاروا رهن إشارته وأمره.. يحفظ من لجأ إليه ولا يهتك ستر أحد .. ولا يتخذ هذا المشرب مطية لاستعباد الرجال واللعب بالنساء.
ما الحاجة إلى علم التصوّف الآن؟ هل يمكن للتصوف أن يقدّم شيئًا جديدًا أو مفيدًا للمسلم المعاصر؟
 يُطرح هذا السؤال بصورة متكررة كلّما تحدث أحد الصوفية وأظهر للجمهور رؤية مختلفة لبعض القضايا التي ينشغل بها المسلمون، وتُواجه الصوفي تهمة الترقيع، فما يقوله الصوفي يعتبره خصوم الفكر الإسلامي أو من يحاكمون الإسلام بناء على ما يجري في الساحة العالمية من أحداث عنف وتطرف وإرهاب- مجرد تأملات بعيدة عن الواقع الملموس، إذ الأحداث أثبتت بما لا يدع مجالاً للشك أنّ الإسلام دين تعصّب واقتصارية وإلغاء للآخر! يتبنى هذه الرؤية كثيرٌ من الكتّاب العرب اليوم، كذلك فإنّ بعض الآباء المسيحيين الذين خاضوا تجربة الحوار الإسلامي المسيحي وساهموا في تطويرها تراجع عن أفكاره التسامحية مع تزايد أحداث العنف ورأى أنّه لم يعد هناك حل ناجع يمكنه أن يغيّر نظرة المسلم الأصولي إلى الآخر المختلف.
عند القوم الصوفية أن "الطرق إلى الله بعدد أنفاس الخلائق" أضحت هذه المقولة شهيرة بين الناس، وتتردد على ألسنة الشباب المسلم اليوم، تجسدت هذه المقولة في التاريخ الإسلامي وأمست واقعًا بتعدد الطرق والمذاهب، ويُفترض في قائل هذه المقولة أو المتمثّل بها في حياته أن يتعبر كافة صور التدين طرق إلى الله ذي المعارج، كلّها طرقٌ إليه ما ناسبني أو ما لم يناسبني، ما يعبر عن المسلم أو ما لا يعبّر عنه، لكن نفرًا قليلاً من الناس من يؤمن بذلك على وجه الحقيقة، أما الغالبية فتعمل على تقييم عقائد الآخرين بناء على فهمها الخاص واعتقادها الجازم في امتلاك الحقيقة والصواب وحدها.
إنّ قصّة الفيل والعميان، تلك الأسطورة البوذية التي دخلت إلى عالم الصوفية تجسّد لنا مثال (الطرق إلى الله بعدد أنفاس الخلائق) فسنائي الغزنوي الصوفي الفارسي بعد أن سرد هذه القصة في كتابه حديقة الحقيقة رأى أن تعدد وجهات النظر تجاه أمر واحدٍ ثراء إنساني يمكن أن يستفيد منه الإنسان وينزع عنه الهوى والتصعب، لكن سنائي أكّد بعد ختامه لسرد أحداث القصة أنّه على الرغم من تشظّي الحقيقة بين الجميع إلّا أن الإسلام هو الغالب والحاكم ومن أراد الحقيقة والصواب فعليه بالإسلام.
استفاد مولانا جلال الدين الرومي من دروس السابقين فأعاد صياغة القصة على نحو مختلف، وختمها بصورة أرحب وأوسع، معبرًا عن رؤية عاشها وآمن بها. يقول مولانا جلال الدين:
إنّ عين الحسّ مثل كفّ اليدّ فحسب، وليست لكفّ واحدة قدرة الإحاطة به ككلّ.
وعين البحر شيءٌ وزبده شيء مختلف، فاترك الزبد وانظر لعين البحر.
إنّ حركة الزبد من البحر ليل نهار، وأنت لا تفتأ تنظر إلي الزبد ولا تنظر إلي البحر وهذا أمر عجيب.
ونحن كالسفن. يصطدم بعضها ببعضها الآخر، ونحن عُمي الأبصار في الماء الصافي.
ويا من قد رحت في النوم في سفينة الجسد، لقد رأيت الماء فانظر إلي ماء الماء.
يقدّم التصوّف للمسلم المعاصر رؤى متعددة بتعدد السالكين في الطريق إلى ربّ العالمين، أهال البعض التراب عليها وغيّبها وسكت عنها، رؤى تفيد الإنسان في تجربته الدينية وتطويرها، وتساعده على التعامل معها بحيوية وصدق، وتريه أبوابًا ونوافذ يلج من خلالها إلى عوالم أرحب لم يكن على علم بها من كثرة الشقوق والثقوب التي فُرض عليه أن ينظر من خلالها إلى العالم والإنسان ويتواصل مع ربّه من خلالها. إذْ يمكّنه التصوّف من التعرّف على كلّام الله دون واسطة، بعيدًا عما تقوله علماء الكلّام، فانشغالات الفرق الإسلامية التي ورثتها الأجيال المسلمة باترة سياقاتها التاريخية جعل من مسلم اليوم مجرد صورة تسجيلية تكرّر السابق فحسب وتلغي وجودها.
إنّ بعض الأفكار الحية في علم الكلّام والطبيعيات غُيبت عربيًّا بسبب اهتمامنا بقضايا الخلاف الفرقية الزائفة، يعلّمنا التصوّف أنّ الاقتصار على الاهتمام بالظاهر والانشغال بالتفاصيل حجب لحياة النفوس الحقة، فلا يمكن للغافلين الذين تحكمهم أنفسهم أن يدركوا الطريق إلى الله ولا منازله في خضمّ انشغالهم بكلّ شيء دون أن ينشغلوا بحياتهم.
ما الحاجة إلى التصوّف إذًا؟ ولماذا التصوّف؟!
يمكننا أنْ نسرد الكثير مما يقوله أهل التصوّف عن ضرورة هذا العلم والسلوك للمسلم، وأنّ التصوّف قلب الإسلام النابض، وأن التصوّف صنع حياة فلان من العلماء وجعله من أهم فلاسفة المسلمين في الغرب، ويمكننا أن نحكي طرفا من سير المعاصرين يجعلنا في نشوة وسعادة، فهذا الرجل الكاثوليكي اهتدى إلى الإسلام عبر بوابة التصوّف، وتلك المرأة اكتشفت الإسلام من خلال نصّ شعري كتبه أحد المتصوفة، وأكثر الكتب مبيعًا في البلاد الأعجمية كتب التصوّف الفارسي والعربي، وبعض المقطّعات الشعرية الصوفية تنشدها أصوات عذبة ولها حضور في حياة الصغير والكبير والمؤمن والملحد!
يفيدنا التصوّف بأن نحسن القراءة فمن كلّام من سبق أنّ الكون كلّه خيال ولا حقيقة إلا هو! لا نقف على ظاهر اللفظ ونتشبث بما ورثناه دون وعي، نتمسك بما مسّنا من القول، وما حرّك فينا شيئًا حقيقيًا، فالوهم واقع لا محالة لكلّ شخص منا يشعر ويحيا ويتطور، فكم من لحظة مرّت علينا تمنّينا فيها أن يكون كلّ ما يحدث لنا مجرد خيال من فرط الدهشة أو الألم أو المكابدة، لعلّ من قال كلّمة قصد كذا، لعل مراده كذا، لعلنا نصل إلى كذا، فكلّمة لعل وربما من مقتضيات البشرية، وكما يعلّمنا أهل الفقه واللغة والتفسير والأدب أن نحمل الكلّام على وجوه كثيرة من التأويل ما لم يُقطع فيه بمعنى صريح، يعلّمنا التصوّف أن نفتح الباب لاجتهاد الآخرين ولا نحاكم أحدًا بأفهامنا التي لم تتطور بعد.
يبلّغنا التصوّف لحظة انكشاف حقيقيّ، لا يكون بيننا وبين أنفسنا حجاب، هذه اللحظة هي الحُجة التي يقيمها الله على العباد، أنت الآن هنا أمام نفسك دون قيود أو حُجب، دون ترغيب أو ترهيب، عليك أن تختار من تكون، عليك أن تختار البدء في تجربتك معي ومع الناس، أو تختار أن تدفن نفسك وسط زحام الأجساد، لتكون مع الحلال أو مع الحرام، لتكون مع يجوز أو لا يجوز، لتكون مع البوح أو الكتم، أنت في هذه اللحظة تعلن ميلاد نفسك أو تدخلها قبور الآخرين!
لا يجعلك التصوّف تهتم بما يقوله فلان من أهل العراق أو مصر، ولا يريك حدودًا للأوطان، الوطن كالبيت، والبيت عند الصوفية هو القلب، والقلب وحده هو ما وسع ما لم تسعه السماوات والأرض، يجعلك التصوّف تدرك معنى وطنك الحق، ومقامك الذي لا يشبه مقام غيرك، فلكلّ حاله مع نفسه ومقامه الذي يبلغه وحده.
لا يجعلك تزاحم الناس وإن كنت في الحرم، فليس في مذهب التصوّف أن تجري حتى لا تفوتك الركعة فتدخل وسط الصلاة ويحمل عنك الإمام ما فاتك من سهو أو نسيان! يجعلك التصوّف إمام نفسك في وقت تستحق أن تفيق ولا تكون عبدًا لأحد، التصوّف كما قال الهجويري وغيره: هو الحرّية. أن تكون إمام نفسك وتدرك جمعك بك وإن فاتتك الجماعات.
يمنحك التصوّف سكينة، لا تجعلك تنتفض أو تعوج رقبتك إذا ما مرّت امرأة جميلة ثمّ تأكلّ لحمها بحديثك مع غيرك عما شاهدته اليوم من فتن، يجعلك التصوّف تبتسم إن رأيت ما يسعد من جمال، تجسّد الجمال في الطبيعة أو في المرأة سواء، فليس كلّ نظر مصحوب بشهوة وانتفاض للجسد، فمن كان سويًّا شاهد الجميل وحمد ربّه. إنّ بعض الصوفية البسطاء فيما مضى كان من الجمال أن قال: لو استوى في قلبك أنّ نظرتك إلى المرأة الجميلة كنظرتك إلى الطبيعة بجمالها، فنظرتك واجبة!
يجعلك التصوّف ترى الموسيقى لغة من لغات الله التي لا تحصى ولا تُعدّ، فالله يتكلّم عبر كلّ شيء، وقد قال في كتابه: قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكلّمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كلّمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً. فبأيّ لغة تكلّم الله تستقبل كلّامه. لن يصبح قلبك قلب عائش وعارف إن ظل همّك ما ورثته من كلّام الأقدمين عن حديث المعازف أحلال هي أم حرام؟!


تعليقات

المشاركات الشائعة