كيف كتب مولانا جلال الدين الرومي المثنوي؟


كيف كتب مولانا جلال الدين الرومي المثنوي؟

كررت على نفسي هذا السؤال مرات عديدة.. لاندهاشي عند كلّ مطالعة لأسفاره التي تجمع بين الجمال والجلال بحقّ.. كيف جمع بين الحس والعقل؟! كيف صاغ الأسطورة وجعلها واقعا مجسّدًا محسوسًا.. كيف أعاد كتابة قصص كليلة ودمنة من جديد ونفخ فيها الحياة ونثر  في حكاياتها آلاف المعاني والأغراض الإنسانية؟ كيف جعل للذبابة قدما ويدا تمسك العصا وتشق البحر كموسى؟ كيف أظهر فرعون النفس وآمن في الوقت نفسه أنّ هذه النفس الفرعونية في داخلها طهارة مريميّة؟ كيف باح بأسرار من شرب الراح مع التنين في الصيف ولم تسكره الخمر العيسويّة؟ كيف استقامت حياته بالحيرة والحزن والفقد وخطّ دفاتر العشق الخالدة؟ كيف خلّص الحمار من طبعه الحماري وجعله يسجد للإنسان ويحمله من طريق الوهم إلى طريق الحقّ؟!

كيف كتب مولانا المثنوي؟ وكيف كتب ابن عربي الفتوحات؟ هنا وعيٌ وهناك وعيٌ أكبر.. هنا موسوعة الإسلام بلغة صوفية تُكتب.. مرات تكون نثرا.. ومرات تكون شعرا.. هناك أبو حامد الغزالي والجنيد والحلاج والتستري والخرّاز وابن الأعرابي وأبو مدين وابن الفارض تُشرح وتُفصّل أقوالهم ويعاد صوغ ما فُقد من تراثهم.. وهنا تنساب أقوالهم عذبة وبديعة.. ليس شرطًا أن تُذكر أسماؤهم أو تجتمع الأدلة على أنّ ما قالوه مشروعا أو مقبولا.. القلب هنا يكتب في دفتره ما يشاء.. وأنت إن كنت من أهل البصر ستريك شمس من كتب مئة دليل وشاهد على أنّ من خطّ دفاتر المثنوي تمثّل بعلوم أهل الإسلام ظاهرًا وباطنا.. فقها وحديثا.. كتبا ومزامير..

كيف كتب مولانا المثنوي؟ لم يغب عن بال من ألح على درس المعنى من كتب قوت القلوب أو من دوّن رسالة في أحوال القوم الباحثين عن حياة للقلوب.. لكنه لم يشبه أحدًا ممن تأسّى بهم، لا من صاغوا المعنى في قالب النثر ولا من نظموه شعرا.. فلا هو قريب من حديقة سنائيّ وإن كرر جزءا من حكاياته ولا هو مهموم بدرس الغزاليّ وإن ذاق قلبه حيرة أعظم من حيرة صاحب المنقذ من الضلال.. حتّام تجد سدًا وحاجزا في قراءات من سبقوه لكنّك مع الروميّ تنتقل من بستان إلى حدائق أوسع يرويها ماء كوثر لا ينضب ولا يأسن.. منهله يعينك على أن تحلق خارج الجزيرة التي تُركت فيها.. وإذا صور لك ابن عربي أرض الحقيقة وحدّثك عن لغات أتقنها وتحدّث بها مع خلائق لن تتمكن من الوصول إليهم.. مع الشيخ الأكبر يرقى العقل ويندهش.. لكنك مع مولانا يمكنك أن تمشي خطوة خطوة حتى تلقى نفسك وتطمئن أنك لست وحدك في هذا العالم موزعًا بين الرغبة والاضطراب والمحبة والغضب والأسى والطموح..

خذ حكاية من حكايات سنائيّ وشاهد كيف صاغها الروميّ.. الحدُّ واجبٌ عند سنائيّ إلّا أنك مع الروميّ لا ترى حدًا أو حاجزًا..  ينتظرك في عالمه براق ليحملك كلّ لحظة إلى عالم جديد.. لتعود وتسأل.. كيف كتب مولانا جلال الدين كلّ ما كتب؟!


تعليقات

المشاركات الشائعة