معنى أن تكون صوفيًّا

 

معنى أن تكون صوفيًّا من جديد



يحلو لأهل البحث والمعارف أن يجعلوا من سلوك المتصوّفة الطرقيين مجالاً للتندّر والفكاهة، فأغلب أهل الطرق لوّثوا الفكر الصوفيّ وأضحى لديهم مجرد شعبذات تستوجب إلفات نظر الحكومات لضرورة ترشيد سلوك هؤلاء! فنحن في عصر يقتضي التنوير لا التدمير للعقول! يفعل ذلك الأكاديميّ المستنير كما يفعله المخاصمون للتصوّف من التيارات الأخرى! بدعوى أنّ أمثال هؤلاء الطرقيّين لم يفقهوا المعنى الصوفيّ أو الروحانيّ في حياة النبيّ أو تجارب السابقين .. فالمعنى الصحيح عند من فتّش في الأوراق وتدبّرها فحسب!

قد يكون جزء ممّا سبق له وجه من الصحّة لكن .. ليس هذا هو ما يهمّ طالب الطريق، أو مريد استكشاف هذا العالم الروحانيّ بحسب موروثه الدينيّ الإسلاميّ.  وكما يفعل أهل البحث يفعل المتصوّفة مثل ذلك .. فالقارئ والكاتب عندهم مسكين لا يزال بعيدًا عن الوصول إلى عتبات الطريق.. ومعنى التصوّف هم وحدهم الأدرى به! أليس لكلّ فنّ فقهاء وخبراء تُطلب استشارتهم فيه! والمشجعون لكلّ فريق أصعب من رؤوس الفِرق!

لا أظن أنّه من الحسن أو المفيد لأحدٍ يعرف حقيقة نفسه ادعاء بلوغه لمعنى أوحد وأصوب لشيء.. وعليه فلا يمكن وصف المعاني إلّا بكونها تعبيرًا عن تجارب أصحابها، ورحلة البحث عن المعنى تحتاج من الإنسان شجاعة وإخلاصا واستمرارية وهدوءً .. وأغلبنا اليوم يفتقر إلى كثير من هذه القيم أو الصفات ..

لذا يلتمس الواحد منّا من تجارب السابقين والمعاصرين بعض المعاني، ويحاول أن يرى نفسه فيها، أو يرى الفكرة التي يبحث عنها متجسّدة في تلك القبسات ..خذ مثلا فكرة: التسامح.. فكرة وحدة الوجود.. فكرة خلق العالم من أجل شخصية مثالية .. فكرة الصفح عن جميع المذنبين .. فكرة التناسخ .. يمكنك أن تعجب بفكرة من هذه الفِكر وترى التصوّف خير معبّر عنها وتراها في حدّ ذاتها هي التصوف في حين أنّ غيرك قد يقتبس فكرة محاسبة النفس وإيلامها ويحاول أن يرى تصوفه فيها، وآخر يكتفي بفكرة العشق والمحبّة .. كلّ هذا في سبيل البحث عن معنى لحياته .. وبعضهم يكفر بكلّ هذا ويبدأ الرحلة من جديد راجيًا أن يولد ولادة لا يتلوّث قلبه فيها بكلّ هذه المعارف!

كان من حسن حظي أني قابلت صوفيّة "متحققين" كما أفهم التحقّق الصوفيّ، كنتُ أظنّ في البداية أن هؤلاء مجرّد صورة في فيلم جميل نسعد به لحظة وسرعان ما تختفي الصورة، ولم يكن أغلب ظنّي إثمًا بل كان حقيقة أقرّتها التجربة الصوفية وجسدها أبطالها في العهد القريب ..فظهور رجل أو امرأة أو طفل في طريقك للحظات قد يبلّغك ما لم تبلغه في رحلة أعوام أو تدرسه في سنين عددا ..رحلتُ بعيدًا عن صورة التصوّف الرسميّ الذي تقرّه المشايخ ويعتمده أبطال الصورة اليوم.. لكنني اقتربت أكثر من نفسي وهذا هو مرغوب القلب عند العرفاء كما عرفته.. أنكرتُ كثيرًا من الصور بدافع الأنا أو الذاتية أو قصور المعرفة القلبية، ثم حاولت لأعوامٍ أن أدرّب نفسي على عدم الإنكار.. ربّما تخلّصتُ من الكثير وبقي القليل ..

شُغلتُ كثيرًا بما يطرحه الناس من صور حتى لم أعد أعرف ملامح صورتي، فرجوت الله أن يخلّصني من هذا الانشغال، وتحقّق لي ما رجوته يومًا وبقي في غربال روحي بعض نسيج عنكبوت السنين الفائتة .. أحاول فكّ خيوطه وإزالتها شيئًا فشيئًا ولعلّ ما بقي لنا من ألف قدرة يساعدنا على ذلك.

رحلة التصوف الواسعة لا ترسم مذهبًا أو ملّة أو تتقيّد بشخصٍ واحد أو تأمّل في ظهور مهدي يتعلّق صلاح العالم به.. رحلة التصوف التي أعرفها رحلة اختبار للذات ومكاشفة حقيقية واختبار يظل حتّى نهاية الحياة .. اكتشف فيها معانٍ جديدة لكلّ ما اعتبره الناس قارًا وساميًا وخالدًا .. رحلة ميلاد تتجدّد كلّ لحظّة بالألم والفرح والمعاناة، بالضيق والسعة وبذل كلّ شيء في سبيل تحقيق هذا الكائن الذي كُتب عليّ أن أسكن فيه!

معنى أن تكون صوفيًّا ..فكرة ممتازة لعيش الحياة كما يراها صاحبها لا كما ينبغي عليه أن يعيش وفق ما رسمه المجتمع أو ما حدّدته بيئته قبل أن يولد ..أن تحدّد معنى لهذا المعنى فما فعلك إلّا صورة من الصور التي تلح على إنكارها ليل نهار . لذا من الأفضل لك إن أردت أن تحيا إنسانًا أن تتدبّر ما سبق وما هو حادث وتنسج خيطك بيديك وترسم طريقك وحدك وتعرف بنفسك ما تشتاق نفسك أن تعرفه ..أمّا حديث الإعلام في بلادنا فما هو إلا لون من ألوان الاحتيال وخداع النفس وتلويث القلب بمعارف متحيزة وحاجبة لكثير من معاني الحياة!


تعليقات

المشاركات الشائعة