سليمان العطّار والدراسات العربية الإسبانية


سليمان العطّار والدراسات العربية الإسبانية 
بقلم: خالد محمّد عبده

تكررت زيارتي لتونس في السنوات الأخيرة، وتوطّدت علاقاتي ببعض الأساتذة في جامعة الزيتونة وجامعة منّوبة، وفي كلّ مرّة أزور تونس ألتقي بالأستاذ الزيتوني عبد الجليل بن سالم الذي ترأس جامعة الزيتونة وكان وزيرًا للشؤون الدينية، ويحرص دائمًا على أن نلتقي بالعلاّمة علي الشابي، ونتدارس في منزله العامر التاريخ الثقافي لمصر وعلاقاتها بجاراتها وما أنتج من بحوث في الآداب العربية وآداب الأمم الشرقية.
لا يمرّ حديث في شأن من شؤون الثقافة العربية دون أن يذكرَ العلامة الشابي اسمًا من أسماء المصريين الأوائل بداية من عبد الوهاب عزّام وطه حسين ومرورًا بأعلام من مثل فؤاد عبد المعطي الصياد، ويحيّى الخشاب الذي تتلمذ على يديه في مصر، ومن جملة هاته الأسماء كان اسم سليمان العطّار الذي يحرص الأستاذ عبد الجليل سالم أن أبلغه سلامات أهل تونس الحارة.
لا يمكن الحديث عن سليمان العطّار الذي رحل عن عالمنا قبل أيام قليلة دون أن نتحدّث عن جيل الروّاد والمعلمين الأوائل في الجامعة المصرية، فقد كان العطّار تلميذًا نجيبًا من جملة تلامذتهم، وبارًّا بهم ومتأسّيًا بأخلاقهم في تعليم طلابه والاهتمام بمستقبلهم العلمي والحياتي، سواء كانوا من أهل مصر أو من سائر الأقطار العربية والغربية، فقد كان الأستاذ من أهل التصوف والتخلّق الندرة.
عند تقديمه لكتاب المكافأة لابن الداية المصريّ، يلفت سليمان العطّار نظرنا إلى ما كان بين المشتغلين بصناعة الأدب من توادٍّ وتراحم وتقدير بنّاء، فالكاتب يهدي عمله لمن هو له كفؤا من شيوخ الأدب والمحققين، ويشير إلى أنّ ذلك كان هو الجو الذي يسود مصر وما حولها من بلدان تدور في فلكها الثقافي في النصف الأول من القرن العشرين، ومن خلال متابعته لنشرات عديدة للكتاب المشار إليه  يلاحظ  انفصال الأجيال وتنافر المعاصرين وهو الأمر الذي لم يكن موجودًا في أوائل القرن الفائت، ويعتبر أنّ هذا المؤشر بداية متواضعة لضرب قيمة تراكم الأمر الذي سينمو ويترعرع بفضل سوق نشر الكتب في بيروت.
إنّ مطالعتنا لأي عمل من أعمال سليمان العطار تقفنا على نموذج مختلف من التناول العلمي لم يعد ذائعًا اليوم في كتاباتنا العربية، وهو التأصيل والإبداع، فأغلب الدراسات في فروع الآداب لا تعدو أن تكون تكرارا لمعالجات سابقة أو نشرًا لأفكار سبق طرحها ولم تعد ذائعة لدى الدارسين بحكم الكسل المعرفي، إلاّ أنّ العطار كان تلميذًا لأساتذة كبار أحسن الاستفادة من دروسهم بالفعل.
وسواء كان العمل الذي يقوم به قراءة لكتاب أو تعليق على حادثة أو تحقيق لنصّ أو ترجمة لعمل أدبي فإنك تطالع منذ اللحظة الأولى بصمته الشخصية وإبداعه البنّاء، فإن كان قد اهتم بالخيال بمفهومه الأدبي وعالجه في أكثر من دراسة إلا أنّ ذلك لم يكن بمعزل عن بقية فروع الدراسات العربية كدرس التصوف أو التاريخ أو علم الاجتماع، كما لم يكن ضربًا من التنظير لا يفيد في واقعنا المعاصر، فللخيال عند ابن عربي نظرية حاول العطّار تسليط الضوء عليها وإظهارها لقرّائه، لأن ابن عربي –كما يراه- لم يكن صوفيًا حالمًا، بل حاول أن يفتح لنا أفقًا ينبغي غزوه، أفق الإبداع والاختراع في عصرنا الحالي الذي صرنا فيه إحيائيين لسادة من "أكداس غبار ماضينا" و"ماضي الغرب". يخرج السادة آمرين بسلطتهم الماضية، فنتبعهم دون مقاومة، بل بكلّ الرضا والاستسلام الممكن. وعليه فالإحياء الذي يراه العطّار ينبغي أن يقوم على الانتقاء، وكلّ ما ينبغي أن نصنع منه أرضًا نسير عليها نحو سماء نصنعها نحن، أي أننا يجب أن نمتلك ما نحييه، وينبغي أن يكون نقطة بداية نحو الانطلاق إلى آفاق الإبداع.
حضارة الإسلام في إسبانيا
كان سليمان العطّار خلفًا لعبد العزيز الأهواني ومحمود علي مكيّ، فقد دان لكل منهما بالفضل، وإليهما يعود كلّ توجيه علمي كان من شأنه أن تحقّق به العطّار، فالأهواني حمل همّ العرب وآمن بـ(الوطن العربي) وأشرقت شمس معارفه شرقًا وغربًا، وما عرف تلامذته قطيعة مع الشرق أو الغرب، وما توقّف عطاؤهم لحظة من بعده، لذا لا يدهشنا أن تنعيه كل البلدان وتحزن على فقده، ومن بدهيات الوفاء أن يخصص له تلميذه الوفيّ محمود مكّي علم الدراسات الإسبانية دراسة تفصيلية لجهوده في دراسة الآداب العربية (عبد العزيز الأهواني والتراث) نشرتها مجلة فصول، ونعاه في مقال آخر نشرته مجلة الهلال. إن عملاً واحدًا من الأعمال التي اضطلع بها الأهواني كفيل بأن يعرف العرب له فضله، فمن يطالع مجلة المعهد المصري للدراسات الإسلامية في مدريد وبصورة خاصة أعدادها الأولى التي أشرف عليها الأهواني سيدرك جزءًا من البناء الذي غرس ثماره الأهواني، وظهرت ثماره على يد محمود مكّي، وسليمان العطار الذي أشرف على ثلاثة أعداد من هذه المجلة ليعيد إليها صبغتها الأولى فيستكتب العلماء والباحثين من الشرق والغرب للحديث عن غرناطة وطليطلة وقرطبة.
وإذا حاول العطّار التأسّي بأستاذه عند تولّيه إدارة العمل البحثي لهذه المجلة العريقة، فلم يكن في كافة أعماله الأخرى لينسى ذكره وفضله، فترجمة العطّار لكتاب حضارة الإسلام في إسبانيا لـ أميريكو كاسترو يعود الفضل فيها للأهواني أولاً، ونراه يصرّح بذلك قائلا: "إن فضل أستاذي الجليل عبد العزيز في خدمة الحضارة العربية وكشفها مسؤول عن هذا العمل، كما أنّ عون أستاذي الكريم محمود مكّي كان ضروريًّا لإنارتي فيما غمض عليّ، أخيرًا فللزملاء الأفاضل د.صلاح فضل ود. جابر عصفور من الأيادي عليّ ما لا يستطيع هذا العمل إلاّ تسجيله لهما".
فقد شرع العطّار في ترجمة وتقديم هذا العمل بعد أن سلّمه الأهواني الكتاب ومعه كتبٌ أخرى لعرض وجهة نظر أميريكو كاسترو وكلّ ما أثارته من نقاش حول آرائه ما بين مؤيّد ومعارض، وقد عزم في بداية الأمر على كتابة مقال بحثي فحسب عن موضوعة الكتاب إلاّ أنه بعد المضي قدمًا في العمل رأى ضرورة ترجمته ومناقشة ما جاء فيه من آراء وتقريب مادته إلى القارئ العربي، وكان في كلّ هذا مستفيدًا من دروس أستاذه.
ولعل أشهر كتاب كُرّم العطّار لنقله إلى اللغة العربية وقُرن اسمه به: مائة عام العزلة لـ  غابرييل غارثيا ماركيز، إلاّ أنّ العمل الذي طُبعت حياته وفلسفته به هو كتاب الشريف العبقري دون كيخوتي دي لامانشا” الشهير بين العرب باسم “دون كيشوت”لـ ميجيل دى ثربانتس سابيدرا الذي ترجمه العطّار وأهداه إلى روح أستاذه: "إلى روح عبد العزيز الأهواني معلّمي وأبي الروحي، والمترجم الأوّل لهذا العمل، وإن لم ينشر إلاّ نصف قسمه الأول رغم ترجمة العمل كاملاً. الجهل لدى الناشر دفعه إلى تمزيق بقية العمل ورفض نشره في ظلّ تعديلات من الرقيب"!
ليس إهداءً فحسب بل تعبيرًا عن الألم ومشاطرة أستاذته حزنه وفقده: "بعد ترجمتي العمل كاملاً، أعرف أنّك تمزّق قطعة من نفسك حين مزّقتَ ما ترجمت. أليس هذا التمزيق فعلاً من أفعال التأثّر بدون كيخوتى، حين مزّق كلّ فروسيته، وعاد إلى اسمه القديم كيخانا"؟ ويستأذن العطّار أستاذه رغبة في لملمة ما مزّقه يومًا أن يُصدّر ترجمته الجديدة للعمل بترجمة الأهواني لمقدّمة المؤلف، وبنشره لترجمة الأهواني للفصل الرابع عشر كاملاً ضمن ترجمته، واصفًا ترجمته بالاجتهاد، ومريدًا من ذلك أن يقدّم شيئًا من شاعرية الأهواني في ترجمة القصيدة التي تتصدّر الفصل في شعر منثور.
ما فعله العطّار لم يكن تعبيرًا عن حبّه لأستاذه وتقديره له فحسب "رائدًا ومنشئًا لدراسة الأندلسيات والإسبانيات بين العرب والإسبان، ومرشدًا روحيًّا له".. بل كان تخلّقًا ودرسًا لتلاميذه من بعده حتى لا يقعوا فيما وقع فيه غيرهم من " انفصال الأجيال وتنافر المعاصرين"..  

تعليقات

المشاركات الشائعة