حدائق أسرار المتصوفة


حدائق أسرار المتصوفة
بقلم: خالد محمد عبده
هذا القلب الأكثر سعة ولطفا وإشراقا من القبة الزرقاء .. لماذا تغرقه في سواد نزواتك وأفكارك العقيمة؟
لماذا تجعل من هذا العالم الرائع سجنا ضيقا؟ أمن المعقول أن نُصيّر هذه الحديقة سجنا؟
 لماذا أصبحنا كالديدان نحيك حولنا شرانق من الأهواء والأوهام والأفكار المريبة، نُحبَس داخلها ونختنق؟
 نحن من أولئك الذين حولوا السجن إلى حديقة!
[مقالات شمس تبريزي-ترجمة عائشة موماد].
كان الصوفية فريقًا وسطًا بين الفرق الإسلامية والدينية المتناحرة فيما بينها للصراع على امتلاك الحقيقة، امتاز بعضهم بالأخلاق الحميدة وسلامة التفكير والأناة والهدوء، فلم يتعصّبوا لهذا أو ذاك، ورحوا يطوّرون تجربتهم الدينية عبر تمارين وتربية للنفس اقتضت من بعضهم سنوات طوال، أو أعمارًا كاملة، مما أنتج جملة من التجارب الحقيقة بالدرس والمناقشة، والاستفادة منها في عصرهم وحتى يومنا هذا.
لفتت نصوص المتصوفة أنظار العديد من القراء والباحثين عن المعنى للحياة، من بين هذه النصوص حديقة الأسرار أو روضة الأسرار (كلشن راز) وهو نصّ صوفي فارسي لقي شهرة هائلة وقت صدوره (في القرن السابع الهجري) وظلّ موضع اهتمام من قبل العلماء المسلمين (السنة والشيعة والإسماعيلية) فكثُرت شروحاته وكان آخرها شرح الطباطبائي في العصر الحديث، إلا أنّ الاهتمام به لم يتوقّف عند هذا الحدّ، فبعد اكتشاف المستشرقين لحديقة الشبستري الصوفية نُقل النص إلى اللغات الأعجمية (الفرنسية والإنكليزية والألمانية) ثم نُقل فيما بعد للغات الشرقية (الأوردية والتركية والعربية) وقد لقي حضورًا في أوساط المفكرين الجديد في الإسلام، وأبرزهم محمّد إقبال الذي عارض حديقة الشبستري بنصّ شعري ناقش فيه عقائد المتصوفة وحاول أن ينتقد بعض أفكارهم القديمة، مقدّمًا رؤيته الحداثية للتصوف، مخالفًا ما ذهب إليه الشبستري من عقائد المتصوفة حول الله والوجود والإنسان، قاصدًا بذلك استنهاض المسلمين من ثباتهم وحثّهم على أن يكون فاعلين في مجتمعاتهم.
الطرقُ إلى الله بعدد أنفاس الخلائق
تمثّل هذه المقولة قاعدة صوفية، يعجب بها كلّ مطالع لهذا اللون من التدين، وسرعان ما تسعفنا نصوص القوم الصوفية بالاستدلال على إيمانهم بهذه العقيدة، وأنّها كانت تعبيرًا عن حقيقة دينية في وقت ما، فمنذ أن نطق بهذه المقولة نجم الدين كُبرى صاحب فوائح الجمال وفواتح الجلال وجدناها تتكرر بصيغ مختلفة في أدبيات الصوفية، ولعلّ من آثار حضورها في حديقة الأسرار قول الشبستري: "لو كان المسلم يدرك ما هو الصنم لأيقن أنّ الدين في عبادة الأصنام! ففي كلّ صنمٍ روحٌ خفيّة، وتحت كلّ كفرٍ إيمانٌ مستترٌ. فالكفرُ دائمًا في تسبيح الحقّ، وما أدقّ قول الخالق: "وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ". فمن ذا الذي زيّن وجه الصنم بهذا الحُسن؟ ومَنْ كان يعبد الصنم لو لم يشأ الحق؟!"
 توجّه حسين الهروي بسؤال للشبستري ملخّصه: ماذا يكون الصنم والزّنار والرهبانية غير الكفر؟ فأجابه الشبستري بالعبارة السابقة وأتبعها بأبيات شعرية استنبط القرّاء منها أنّ الشبستري كان داعية للسلام والتسامح والانفتاح، وهو خير تعبير عن التصوف المتجاوز لضيق الأديان واقتصاريتها. فهل هذا صحيح بالفعل؟ أم أنّه اختزال للتصوف وانتقائية تخلّ بفهمه وحسن الاستفادة منه؟ لعلّ نظرة إلى سيرته ومقارنة بين بعض أفكاره وصوفية آخرين توضّح لنا طبيعة ما قدّمه في أعماله.
توفّي الشاعر الصوفي الشبستري (1317م/720هـ) عن عمر ناهز الثلاثة والثلاثين عامًا، ودفن في شبستر وأصبح مرقده اليوم مقصد الزوّار والسائحين في أذربيجان، ورغم عمره القصير ترك لنا الكثير من الآثار، منها: (سعادة نامه: شرح فيه بعض أحواله وألقى الضوء على الأجواء الدينيه في عصره، وشاهد نامه: عن العشق والمعشوق والعاشق، ومرآة المحققين: في معرفة النفس والله والعالم، وحقّ اليقين في معرفة ربّ العالمين: ويشتمل على حقائق ودقائق في الحكمة الإلهية والتصوف، وكلشن راز: حديقة الأسرار التي أجاب فيها على أسئلة صوفية وجهها إليه أمير حسين الهروي الملقّب بالجنيد الثاني).
تميّز عصر الشبستري بانتشار الأفكار والمعتقدات المسيحية كما شهد توطيد العلاقات بين حكّام المغول وسلاطين أوروبا المسيحية مما حدا ببعض المستشرقين المهتمين بآثار الشبستري أن يرجع أغلب أفكاره الروحية إلى المسيحية، وهو أمر درجت عليه دراسات عديدة للتصوف لكنه لم يعد مقبولاً عند كثير من الدارسين في الغرب بعد تفنيده على يد كبار المتخصصين في التصوف من أمثال: (هنري كوربان وماسنيون وأنّا ماري شيمل) وقد تناول هؤلاء عمل الشبستري بالعناية والتحقيق.
وإذ تميّز عصر الشبستري بتعدد الحكّام واختلاف عقائدهم مما أشاع جوًا من القلق وعدم الاستقرار عند كثير من أفراد الشعب إلا أن ذلك كان حافزًا لكثرة من الجماهير للجوء إلى خانقاهات الصوفية فرارًا من العنت واستئناسًا بالشيوخ المنقطعين للذكر والعبادة، وهو أمر يمكننا أن نراه في أيامنا فبعد صراعات التيارات الدينية والمدنية للحصول على بعض المناصب وتقاسم السلطة عزفت فئات عديدة من الشعب عن الخطاب الديني المسيّس ولجأت إلى خطاب الروحانيات الآمن الذي لا يرهقها ويديم صلتها بخالقها. إلاّ أن عصر الششتري كان مختلفًا عن وقتنا هذا فقد شهد ظهور عدد كبير من الكتّاب والشعراء الصوفية الذين أثروا هذا المجال بأعمالهم ومؤلفاتهم، وقد خلق حضور المشايخ الصوفية في تبريز جوًّا من الشغف أثّر في شخصية الششتري.
تقول الأسطورة إن مدينة تبريز بها مكان يُسمى جبل الأولياء، تظهر فيه أرواح الأولياء ليلاً فتشكل مجموعتين من الحمام الأخضر والأحمر، تطيران إلى مكة لتطوفا حول الكعبة، وببركة هؤلاء يسعد الناس في ذلك المكان. ويصف مولانا جلال الدين الرومي تبريز بأنها (مقامٌ من قبوره يستنشقُ أربابُ العشق أنسامًا باعثة للحياة). لكن بايزيد البسطامي يرى المدينة في صورة أخرى؛ ربما لأنه طاف حول الإنسان أكثر وخبر المدائن والرجال، فأهل تبريز عنده غير ميالين إلى أهل الحقّ وينكرون الحكماء لذلك حذّر بعض تلاميذه من هذه المدينة.. ولعل هذا كان سببًا في شكاية الشبستري فيما بعد من نفاق بعض المتظاهرين بالتدين والتصوف وتنبيهه على عدم كفاءة القائمين بالأمور في بلده. 
نصح الشبستري كلّ من أراد السير في طريق السلوك إلى الله بعدم التمسّك بعالم المحسوسات وما يفرضه على الناس، ودعاهم إلى التأمل والتفكّر القلبي، وعنده أنّ "في قلب كلّ ذرّة مائة بيدر، فإذًا في كلّ بذرة يوجد عالم، وفي داخل تلك الحبّة الصغيرة بيتٌ لربّ العالمين، وتحت كلّ ذرّة يكمن جمال الله المحيي للروح". تمثّل الشبستري بأعمال الصوفية السابقين من أمثال الحلاج والغزّالي وعين القضاة الهمداني وسنائي الغزنوي وفريد الدين العطّار وجلال الدين الرومي، بل إن أغلب آراءه تعدّ شرحًا لأعمال هؤلاء، فعلى سبيل المثال نجد أن حديثه عن الكفر والإيمان والسلوك إلى الله تلخيصًا لرأي الهمداني، الوارد في كتابه تمهيدات: "السبيل إلى الله ليس في الأرض ولا في السماء، ولا في الجنة ولا حتى في العرش، بل هو في نفسك، وهذا هو معنى في أنفسكم؛ لهذا على طلاب الله أن يبحثوا عنه في أنفسهم فهو في قلوبهم وبواطنهم". وفي موضع آخر يقول الهمداني: "إنّ العشق هو ديانة العاشق ومذهبه، فمن يعشق الله يكن مذهبه جمال لقائه، وإن يكن في الحقيقة كافرًا، وهذا الكفر يعني الإيمان؛ قلتُ: أيّها الملك في أيّ مكان أبحث عنك وعن صفاتك؟ قال: لا تبحث عنّي في العرش أو في الجنّة، بل ابحث عنّي في جوار قلبك، فأنا ساكن هناك!
ما الإسلام وما الكفر إذن؟ إنهما حالتان لا بدّ منهما ما دام الإنسان مع نفسه؛ أمّا إذا تحرّر الإنسان من نفسه فلا يجدان طريقًا إليه! ما دام في معبد الأصنام خيالٌ من معشوقنا، فلا يُعقل الذهاب إلى طواف الكعبة؛ فإذا لم يكن في الكعبة أيُّ عطر منه، فهي كمعبد النار، كما أنّ معبد النار كعبتنا بعطر وصاله". ولعلّ هذا ما جعل السبشتري يرى أن علامة العشق أن ينسى الإنسان نفسه وقلبه، وأن يكون مؤمنًا تارة وكافرًا تارة أخرى وأن يتلاءم مع هذين المقامين إلى الأبد. وقد يفقد الكفر والإيمان في هذا المقام معناهما ولا تعود لهما أية أهمية لأنه سيمسي في مقام التوحيد المحض، يفنى كالقطرة في البحر!
ينصح محمود الشبستري مطالع نظمه ألا يتمسّك بالتدين الظاهري حتى ينجو من كل الأباطيل المنتشرة في عالمه: إذا شئت أن تكون عبدًا خالصًا، تهيّأ للصدق والإخلاص ونجّ نفسك وابدأ كلّ لحظة بإيمان جديد. إذا كانت أنفسنا كافرة بالباطن، فلا ترض بدين الإسلام الظاهري، بل جدّد إيمانك في كلّ لحظة وكن مسلمًا!



  السبت 11 أبريل 2020

تعليقات

المشاركات الشائعة