فصلُ المقال فيما بين التصوف والعلوم الإسلامية من اتصال

فصلُ المقال فيما بين التصوف والعلوم الإسلامية من اتصال 
(ثلاث إضاءات)
بقلم: خالد محمد عبده 

1- إنّ أغلب ما كُتب عن موضوع لقاء التصوف بالعلوم الإسلامية عربيًّا يحوم حول الصراع أو الوفاق بين الصوفية والفقهاء، لكنّه لا يتعرّض لبقية فنون المعرفة الإسلامية الأخرى، كعلم الحديث مثلاً أو التفسير القرآني أو الصّلة بين علوم اللغة والتصوف، هناك بحوث ومقالات نادرة حول هذه الموضوعات لكنه لم تخصّص دراسات معمّقة لمثل هذه الموضوعات في أيامنا هذه، وأغلب ما يطرقه الباحثون من موضوعات مكرر عشرات المرات.. خذ مثلا موضوع لقاء ابن رشد بابن عربي، بما أننا استعرنا عنوان كتاب لابن رشد وصدّرنا به هذه الكلمة، كبحث متعلق بالعقل والذوق وسبل المعرفة المتعددة .. كُتبت في المملكة المغربية خمس مقالات عن نفس الفكرة -على الأقل- وفي الجزائر كتب مرتين وسبق بالطبع أن كتب الباحثون عن هذا في مصر، ربما كانت هناك ضرورة لبحث نفس الفكرة في أكثر من مقال، لكنك بعد أن تطالع المواد المكتوبة تعرف أنّ المسألة مجرد تكرار فحسب. وأقدم من نعرفه كتب عن هذه الفكرة في المغرب (أحمد كازى مجلة فكر ونقد، عدد 14، عام 1998) وفي الجزائر ساعد خميسي، وهناك مسائل بحثها الأخير في جملة مقالات له تتنزّل في علاقة التصوف بالعلوم الإسلامية الأخرى، كالفلسفة وعلم الكلام وعلم الاجتماع، جمع بعضها ونشرها في كتاب دراسي طُبع في الجزائر وقُرّر على الطلاّب وهي فكرة جيّدة ربما استفاد منها الباحثون فيما بعد .

 2-صدر مؤخرًا عن دار المشرق في بيروت، كتاب “الحديث والتصوف”: دراسة وتحقيق بلال الأرفه لي وفرانشسكو كيابوتي. والكتاب على الرغم من صغر حجمه إلاّ أنه هام في بابه، فلم نعرف -في حدود بحثنا- كتابًا عربيًا تناول هذه الفكرة .. في الجزء الأول من الكتاب دراسة عن العلاقة بين علم الحديث والتصوف كُتبت في الأصل باللغة الإنجليزية والجزء الثاني من الكتاب فيه قصة العباس بن حمزة مع ذي النون المصري .. ونلاحظ هنا أنّ أبا الفضل العباس بن حمزة بن أشوش النّيسابوري (ت 288/901) وذا النون المصريّ كما هو معروف من متقدمي الصوفية (ت نحو 245/859) يتناول الكتاب إذن فترة تاريخية هامة .. وأوّل إشارة يقدّمها أنّ الدراسات الغربية كثيرة .. وهذا ما لا يتمّ الالتفات إليه .. خذ مثلاً نسبة (النيسابوري) وابحث عنها في كتب التراجم والطبقات والتواريخ، ستجد عشرة أعلام حتى القرن الرابع الهجري كانوا صوفيّة ومحدّثين ولهم إسهامات في العلمين، سأضرب مثالاً على ذلك بأبي القاسم النيسابوري، ترجم له الذهبي في سير أعلام النبلاء، والسلمي في طبقاته، ولا أظن أنّ بحثًا واحدًا كُتب عنه باللغة العربية رغم كون الرجل يعدّ شيخًا من شيوخ الحاكم النيسابوري وله موقف من علم الكلام وإشارات في تفسير القرآن ونظرات في التربية .. الإشارة الثانية التي ترد في دراسة الحديث والتصوف إلى دور الجنيد البغدادي في توحيد مختلف الأطراف، إذ ثمّة نصيحة قدّمها له مربّيه الروحي (السريّ السقطي) تتلخّص في دعائه له: جعلك الله صاحب حديث صوفيًّا، ولا جعلك صوفيًّا صاحب حديث. فكثرة الرواية تشغل الإنسان عن الرعاية إذا استعرنا مفهوم ذي النون المصري الذي أورده صاحب حلية الأولياء كسبب لعدم استمرارية غريب الصوفية في الانشغال برواية الحديث النبوي. إشارة أخرى إلى العناية المبكّرة من قِبل الصوفية بجمع الأحاديث النبوية متمثّلة في تدوين أحد المعاصرين للجنيد كتابًا في الأمالي الحديثية، تؤكّد اهتمام الصوفية بالنقل والأثر، وهذا من شأنه تصحيح الصورة السلبية عن الصوفية التي تحصرهم وتختصر مشاربهم في فكرة (حدّثني قلبي) كما رُوي عن أحدهم.. ومن المناسب هنا أن نحيل على دراسة أنجزها أبو اليزيد العجمي ونُشرت في حولية الجامعة الإسلامية بباكستان عام 1993 عن شخصية النبي في التراث الصوفي.. فحضور النبي وأثره في تكوين علم التصوف أمر أساسي التفت إليه كلّ من بحث في فكرة مصدرية التصوف.

 3-التصوف وتفسير القرآن سأتحدث عن كتاب عرفه أهل المغرب وتونس بشكل خاص نظرًا لأنه حتى هذه اللحظة لم يُنقل إلى اللغة العربية هو كتاب الأب بول نويا Exégèse coranique et langage mystique   قدّم الأب لدراسته عن التأويل القراني واللغة الصوفية بمقدمة ناقش فيها استبعاد الإسلام النصوصي للتفاسير الصوفية .. إذ تمّ إقصاء التفسير الصوفي رغم ثرائه، لكونه بدعة وهرطقة ولا أصل له في الإسلام .. ومن هنا استبعد بعض المستشرقين كـ(بلاشير) هذا اللون التأويلي للقرآن حينما أراد أن يدرس التفاسير واللغة القرانية .. حاول الأب نويا أن يثبت خطأ هذه الفكرة . وقد نجح بالفعل من خلال دراسته النظرية للقرآن واللغة الصوفية .. ومن خلال تحقيقاته للنصوص المؤسسة للتفسير الصوفي.. ورغم عمره القصير الذي لم يمهله القدر لإتمام مشروعه عن تفاسير الصوفية للقرآن في مصر والمغرب وبغداد والشام وإيران إلاّ أنه قدّم إنتاجا ثريا عبّد الطريق لكثيرين من بعده، بل إن بعضهم أغار على جهوده ونسبها لنفسه! لفت نظري في كتاب الأب نويا تناوله لتفسير مقاتل بن سليمان الشخصية التي يمكن اعتبارها من الشخصيات القلقة في علم التفسير وعلم الحديث .. هناك مقاتلان .. مقاتل الذي لا يعتد به ومقاتل الذي نجد لأقواله مكانة بارزة في التفاسير الإسلامية وفي كتب علوم القرآن، بحيث لا يخلو كتاب من كتب الوجوه والنظائر من الاعتماد على مقاتل، وعند الصوفية الكبار كالقشيري والخركوشي وغيرهم .. بخلاف الأب نويا لم يلتفت الدارسون العرب إلى أهمية تفسير مقاتل عند الصوفية، وخلا بحث المغفور له عبد الله شحاته عن مقاتل من الإشارة إلى أثر مقاتل على الكتابات الصوفية، وكذلك لم ينتبه محقق كتاب الحكيم الترمذي (تحصيل نظائر القرآن) إلى حضور مدونة مقاتل البلخي ولا لكون كتاب الترمذي بالأساس هو عبارة عن تعليقات على نصّ مقاتل، التفت إلى ذلك محمد الشاذلي النيفر عام 1977 وكتب مقالاً عن هذه الفكرة، راجيًا أن يحصل على نصّ كامل لكتاب الترمذي. لكن النيفر لم يشر إلى جهود بول نويا في هذا السياق، وفعلت هند شلبي إذ أحالت أكثر من مرة عند تحقيقها لكتاب التصاريف ليحيى بن سلام على دراسة نويا مشيدة بجهده، ومخالفة إياه في بعض المواضع، وهي فيما نعلم الشخص الأمين للغاية في النقل والهادئة في المناقشة، قدّمت نقدًا موضوعيًا بنّاءً لأكثر من كتاب وتحقيق صدر قبل دراستها .. ولم يغب عنها أهمية البعد الصوفي في درس القرآن، فعلت ذلك في دراستها عن الفخر الرازي وتفسيره، ودراستها عن القراءات القرآنية في إفريقيا .. وهو البعد الذي تناساه كثير من الدارسين فيما بعد .

تعليقات

المشاركات الشائعة