مجتمع القرن الرابع الهجري في مؤلفات أبي حيّان التوحيديّ


مجتمع القرن الرابع الهجري في مؤلفات أبي حيّان التوحيديّ
بقلم: خالد محمد عبده

قبل خمسين عامًا سجّلت الأستاذة القديرة وداد القاضي أطروحتها لنيل شهادة الماجستير في الأدب العربي في الجامعة الأميركية في بيروت، وتحديدًا في عام 1969 عن أبي حيّان التوحيديّ، إلاّ أنّ هذه الأطروحة ظلّت محجوبة عن القارئ العربي ما يقارب نصف القرن، حتّى صحّ منها العزمُ على إخراجها إلى النور، استجابة لإلحاح عددٍ من زملائها، وعلى رأسهم بلال الأرفه لّي الذي رأى أنّ موضوع الأطروحة لم يتطرّق إليه الباحثون بعد، ولذلك فإنّ فائدتها ما زالت على ما كانت عليه منذ أن طرحت فكرتها وناقشتها في الجامعة الأميركية في بيروت.
تدينُ وداد القاضي بالفضل للعلّامة المغربي محمد بن تاويت الطنجيّ، الذي أعانها على استكمال بعض جوانب بحثها، وتشيد بروحه العلمية النبيلة، فقد وفّر لها من المواد المخطوطة والمطبوعة ما أعانها على المضيّ قدمًا في بحثها عن التوحيديّ ومجتمع القرن الرابع الهجري. لم يكن هذا غريبًا على الطنجيّ فقد اعتبره إحسان عبّاس ركنًا من الأركان التي كان يلوذ بها مطمئنًا إلى علمه وإنسانيته، ففي أعمال الندوة التكريمية للعلامة الطنجي التي عُقدت في مدرسة الملك فهد العليا للترجمة بطنجة وصفه عبّاس قائلا: "كان نموذجًا في الكرم في تعامله معي، ومع غيري من أبناء البلاد العربية الذين يؤمّون إستانبول، لم أطلب مخطوطًا منه إلاّ زودني منه أو بميكروفيلم، ولم يتأخر عن مساعدة أي زائر عربي فيما يريد الوصول إليه".
التوحيدي بقلم وداد القاضي، لمحةٌ في سيرته
خطر لوداد القاضي بعد أن أعادت قراءة أطروحتها عن التوحيدي أن تحذف فصلها الأوّل المخصص لسيرة التوحيدي وشخصيته، لأنّ الدراسات التوحيديّة قد تجاوزته، غير أنّها عدلت عن هذه الفكرة كون الفصل السيريّ مختصرًا وبه بعض المعلومات المتعلّقة بموضوع أطروحتها وحسنًا فعلت! فالإطلالة على هذا الفصل تقفنا أمام شخصية التوحيدي الثرية بتركيز ووضوح نادرين اليوم رغم سهولة الحصول على المعلومات.
 نعرفُ من خلال كمّ المعلومات الورادة في المتن والحواشي التوثيقية كيف ارتحل التوحيدي من بلدٍ إلى بلد، ونشاهد مع المؤلفة صورًا للتوحيدي في بخارى وأذربيجان وبغداد ومكّة وأصفهان وشيراز، ويأخذنا الانبهار كثيرًا كيف التقى التوحيدي بعلماء الكلام وشاركهم المناظرات والجدل، وكيف روى حديث النبيّ، وكيف استطاع أن يجمع بين الفقه والتصوف والحديث واللغة والمنطق والفلسفة والاجتماع؟! وإذا كانت الرحلة العلمية قد أثمرت هذا الكمّ من التصانيف التوحيديّة فكيف هو إثمار الرحلة الصوفية في حياة التوحيدي؟ وما هو أثر لقائه لقائه بجماعة الصوفية في وقت مبّكر في حياته وفي أثناء صراعه من أجل لقمة العيش، الذي خاب سعيه في تحصيلها عبر وسائل اتصاله بالساسة والنافذين في أغلب البلدان التي ارتحل إليها!
نتساءل مع القاضي كيف لمن قضى عمره في الوراقة أن يقوم بإحراق كتبه وتبييض صحائفه من عجائب الأقاويل ونوادر الحادثات التي سجّلها بعد رحلة دامت لأعوام طوال؟! كيف استطاع رغم كلّ العثرات أن يحافظ على إيمانه بالله الغفور الرحيم؟!  هل ساعدته الرحلة الصوفية على ذلك؟ هل استفاد من صحبة السالكين والتعلّم منهم؟!
الحجّ العقلي لأبي حيّان التوحيدي
في عام 353 من الهجرة حجّ أبو حيّان التوحيدي إلى بيت الله الحرام ماشيًا، وفي مكّة تعرّف على مجموعة من الصوفية وصفهم في كتابه الإشارات الإلهية قائلا: (كانت صفحات وجوههم مبشرة بالخير المطلوب، ومقادر حركاتهم ناطقةٌ بالحقّ الذي هو آخر ما يُكدّ له ويُسعى إليه، وشواهد ألسنتهم ناصحةً لكلّ سامع) وذكرت بعض هؤلاء الصوفية الأستاذة القاضي وترجمت لهم في كتابها، وقد ذكر حجّ التوحيدي ماشيًا غير واحدٍ ممن اهتموا بترجمته، لكننا نقرأ في كتب التراجم أنّ أبا حيان كتاب كتابًا بعنوان: الحج العقلي إذا ضاق الفضاء إلى الحجّ الشرعي، يبدو هذا العنوان هائلاً من حيث صورة لفظه ومعناه، فلا يكاد يُصدّق مسلم اليوم أن كتابًا تراثيًا حمل هذا العنوان، من رجل حجّ إلى بيت الله ماشيًا! وبعد الاطلاع عليه [أي على العنوان] لا نستغرب لماذا اتهموا التوحيدي بالزندقة؟! هكذا تكلّم أركون في كتابه: نحو تاريخ مقارن للأديان التوحيدية. ففي رأي التوحيدي أنّ المسلم إذا لم يكن يمتلك المقدرة المادية على آداء الحجّ بإمكانه أن يحجّ وهو في بيته. كيف؟ عن طريق الروح والفكر والعقل.
كلّ من كتبوا باللغة العربية عن التوحيدي لم يشر ولو إشارة واحدة إلى وجود نسخة من هذا الكتاب، وآخر بحثين عن التوحيدي ومؤلفاته المخطوطة والمطبوعة للأستاذ أيمن فؤاد سيد -وهو ممن تيسرت لهم سبل الحصول على المخطوطات النادرة، والأستاذة زينب الخضيري -وهي ممن توصلوا بأغلب ما حصل عليه العلامة ماسنيون من مخطوطات تخصّ التصوف- اعتبر كلاهما أن كتاب الحجّ العقلي مفقود، وكذلك رأت الأستاذة وداد القاضي .. ولعل نقلاً يتيمًا من كتاب التوحيدي هو ما يتردد على ألسنة الكتّاب منذ زمن بعيد.
على أنّ من أوائل من التفتوا إلى هذا الكتاب وصلته بالحلاج كان الأب هنري لامنس، والمستشرق الفرنسي ماسنيون وقد دقّق فيما بعد في شأن تلك الصلة الأستاذ جعفر الكنسوسي في تعليقه على إشارات أبي حيان الإلهية وبحثه من البحوث ذات الأهمية في هذا الموضوع، كما التفت الأستاذ سالم بنحميش إلى هذه المسألة في بحثه عن التوحيدي المنشور في العدد الخاص بالتوحيدي في مجلّة فصول المصرية!
يقول أبو حيان في نصٍّ ذي نفس حلاّجي بديع: لولا لزومي حدّي في العبودية وتلطّفي في تصفّح الربوبية لتمطّيتُ على جوانب أسرار ليس لأحدٍ من البشر عنها خبرٌ ولا أثرٌ، لكن ما أصنعُ والرقيبُ يقظان يُحصي أنفاسي، والعدو متكئ في ناحية يهيئ أمراسي ويزلزل أركاني.. خذ حديثه جملة فتفصيله باهظٌ وافتح بالعنوان فمفضوضه موحشٌ".
التوحيدي والتصوف
"لولا أنّ الله أمرنا بحفظ هذه النفوس له لجعلنا على ذروة كلّ جبلٍ منها قطعة"! روى التوحيدي هذه الكلمة الصوفية، التي تعبّر عن عدة مراحل في حياته، واحتفى بكثير من أقوالهم، وأشاد بتجارب الصوفية المتحققين. وفيما تركّز الأستاذة القاضي على أغراض عدّة مما اهتم بها التوحيدي لم تخصص جزءًا من كتاباتها عن الجانب الصوفي عند أبي حيان رغم معرفتها الدقيقة بعوالم التوحيدي، فالمقدّمة التي كتبتها لتحقيقها للإشارات الإلهية رغم وجازتها أفضل بكثير مما كُتب عن تصوف التوحيدي في الدرس العربي المعاصر، فكم كان يودّ القارئ لها ألا ينتهي حديثها عن هذا الجانب، نظرًا لتوثيقها ودقتها في التعامل مع هذا الموضوع، ففيما ينفي أكثر من باحث عربي كون التوحيدي متصوفًا في قسط من حياته، متجاهلاً أغلب المعلومات التي يذكره التوحيدي نفسه في الإمتاع والمؤانسة والمقابسات والبصائر والذخائر وفي كتابه الماتع الإشارات الإلهية، لم تفعل ذلك الأستاذة القاضي ومن خلال عملها يمكننا أن نتتبع الملامح الصوفية للتوحيدي.
تتحدد صلة أبي حيان التوحيدي بالتصوف –كما تقول القاضي- على صعيدين: الصعيد المسلكي، وفي كتبه أخبار كثيرة عن علاقاته بالمتصوفة ومعايشتهم لهم وانتحاله زيّهم، وعن آرائه في تفاوت إخلاصهم في الانصراف عن الدنيا ومغرياتها. والصعيد النظري، وهو متصلٌ بعلم التصوف، وعلى هذا المستوى يقع فهم أبي حيّان لمعنى التصوف من أنّه "اسمٌ يجمع أنواعًا من الإشارة وضروبًا من العبارة وجملته التذلل للحقّ بالتعزز على الخلق"، وأنّه علمٌ "يدور بين إشارات إلهية وعبارات وهمية".
التصوف عند التوحيدي فعلٌ أكبر من اسمه وحقيقته أشدّ من رسمه، يشير إلى أعلامه بإجلال وتقدير قائلا: " وبعد أن تخصّ هؤلاء فاعمم بأجمل تحيّةٍ سائر ذوي الفضل من الصوفية، فأنّهم ملوك الدنيا وسادة الآخرة". وهو يناديهم في رسائله بـ(يا سادتي) و (يا أحبائي) ويتذكّر أيامه الجميلة معهم، ويتحسّر على مضيّها ويتشوّق إليها، ويشكو سوء حاله وهو بعيد عنهم؛ ومن أجل ذلك يستعطفهم عليه مذكّرًا إياهم بأنّ جزءًا مما يقاسيه إنّما هو بسبب حبّه لهم ودعوته الناس إليهم، ويرجو أن يكونوا شفعاءه عند الله.
وكثيرًا ما بسط التوحيدي وفصّل كلامه على طريقة الصوفية، سواء في مناجاته أو شرحه لبعض الآيات القرآنية، ومن ذلك ما يقوله في الإشارات الإلهية: يا هذا قد أصبحت في قبضة العزّ تجري عليك تصاريف القدرة وأحكام المشيئة، بين أستار سابغة من النعمة، وأكنان ظليلة بالرأفة والرحمة، فلا تتعرّض لتغيّرها عليك فإنّه قد أبان في تنزيله ذلك، حين قال: (إنّ الله لا يغيّر ما بقومٍ حتّى يغيّروا ما بأنفسهم).


تعليقات

المشاركات الشائعة