التصوف في إسبانيا: هل تعرّفنا على الوجه الثوري للتصوف؟!


التصوف في إسبانيا: هل تعرّفنا على الوجه الثوري للتصوف؟!
بقلم: خالد محمد عبده

هناك صنفٌ من الناس يستمدّون من الحقّ ويمدّون الخلق ولكن بلطف ولين ورحمة، هذا الصنف من الناس يُعدّ في طبقة الأولياء، وقد أشار ابن عربي إلى استفادته البالغة من بعضهم، كما ورد في الفتوحات المكّية وروح القدس والدرّة الفاخرة، ما جذب ابن عربي إلى هؤلاء لم يكن نبوغهم ولا كثرة تآليفهم ولا موهبتهم الشعرية،كما تقول كلود عدّاس، بل طيبة قلوبهم! فليس شرطًا أن تكون موسوعيًا في المعرفة حتى تتمكّن من إفادة الخلق، وإن بدت لك فكرة أردت إيصالها لغيرك فما أجمل التواضع واللطف والبساطة إن تحلّيت بهم وجد كلامك طريقه إلى قلوب الخلائق.
كثيرة هي الكتابات العربية التي تظهر على الساحة الثقافية متناولة الأندلس ومعارف المسلمين في الماضي البعيد بالدرس والمناقشة، وبلغة مشحونة بالعاطفة يكتب كثيرون من مصر والعراق ولبنان وسورية وغيرها من بلداننا العربية عن الفردوس المفقود، بل إنّ بعضهم يؤجج مشاعر القراء بذكر بعض القصائد التي يبكي فيها حال الأندلس، فإسبانيا التي نراها اليوم يعود الفضل للمسلمين في كلّ حضارة وصلت إليها، ولعلّنا نعود يومًا إلى قطعة من أرض الإسلام قصّرنا في حقّها فنعيد أمجاد الإسلام! هذا المنطلق العاطفي لا يغيب عن بال أكثر (المتحدثين) في (أوراقهم العلمية) ورسائلهم الجامعية عن الأدب والإنسانيات في الأندلس. لم تكن هذه الصورة من العاطفة المدّعاة اليوم تواجهنا في الكتابات العلمية الرصينة التي وصلتنا من أساتذة الجيل السابق، من أمثال: إحسان عبّاس، وعبد العزيز الأهواني، والطاهر مكّي، وعبد العزيز بنعبد الله، ومحمّد بنشريفة، ومحمود مكّي، وحسين مؤنس، وغيرهم من أعلام الدراسات الإسبانية. بل إنّ ما وصلنا منهم أكثر إلى جانب بحوثهم العلمية الرصينة التواضع والإيمان بالبحث المستمر والتعاون مع الباحثين شرقًا وغربًا.
بدايات التعرّف على التصوف في الأندلس
يفاجئ القارئ المتعطّش إلى درك المعارف الصوفية هذا الكمّ الهائل من التراث العربي المنشور الذي طُبع في بغداد ومصر ولبنان وسورية، إنّ شخصية صوفية واحدة كالحلّاج أو ابن عربي أو ابن الفارض أُلّفت عنها عشرات الكتب، فليس صعبًا أن نميّز بين الأصيل والدخيل والمحقق والشائع، لكننا نجابه صعوبات عدّة عندما نودّ التعرّف على التصوف في الأندلس، ذلك أن المراجع الشائعة على كثرتها لا تقفنا على أرض صلبة نستطيع من خلالها سبر غور أمور التصوف، فبدايات التصوف في الأندلس لم تتناولها الدراسات المشرقية بنفس القدر الذي تناولت به الدرس الصوفي العربي، وأضحى من النادر أن نجد في المكتبة المشرقية دراسات تهتم بالتصوف الأندلسي وأعلامه، اللهم إلاّ كتابات نادرة صدرت قبل نهاية القرن الفائت، ومن ذلك كتاب الدكتور محمد بركات البيلي الذي صدر عن دار النهضة العربية عام 1993 بعنوان: الزهاد والمتصوفة في بلاد المغرب والأندلس حتى القرن الخامس الهجري، وأتبعه فيما بعد 1995 بدراسة عن المتصوف ابن مسرّة ونزعته المسريّة في الأندلس، ذكر في مقدّمتها مراجعة الدكتور محمود مكّي للدراسة وأنه بفضله تمكّن أن يخرج هذا الدارسة في صورة مرضية.
وعند مطالعتنا لكتاب الدكتور البيلي الزهاد والمتصوفة يمكننا أن نعتبره تطويرًا لبحث كان قد نشره الدكتور محمود مكّي في مجلّة دعوة الحقّ المغربية عام 1962 في عددين متتابعين تحت عنوان: التصوف الأندلسي مبادئه وأصوله، ثم عاد فوسّعه ونشره في باللغة الإسبانية عام 1968 وأثبت مكّي في بحثه عن أصول الحركة الصوفية في الأندلس أنّ أصول التصوف ومبادئه لم تكن مضطرة لاستعارة أفكارها من مصادر خارج الإسلام، مؤكّدًا على أوجه الشبه المشتركة بين التصوف الأندلسي والمصري، ومركّزًا بصفة خاصة على أثر ذي النون المصري في متصوفة الأندلس.
كان مكّي كما أشرنا في مقال سابق من أعلام الدراسات الإسبانية، لذا حاول في بحثه أن يصوّب بعض الأفكار التي طرحها آسين بلاسيوس في بحوثه عن التصوف الأندلسي، ففي أغلب بحوث بلاسيوس عن التصوف انتشرت فكرة مفادها أنّ الإسلام دينٌ جاف وبارد لم ينتج من داخله أيّ حركة صوفية، والزهّاد الأوائل في الأندلس ما هم إلاّ مقلدون لحياة الرهبان في الشرق، وراح يثبت من خلال أبحاثه عن تصوّف الغزالي، وابن مسرة، وابن عربي الأثر المسيحي الذي شكّل تجربة هؤلاء المتصوفة. إلّا أن هذا المسلك من بلاسيوس لم يكن بصارف للدراسين (العرب والمسلمين) عن الاستفادة من أعماله وترجمتها والعناية بها، بل والاعتماد عليها في دراساتهم عن أعلام التصوف وإثبات الأثر الإسلامي في الفكر الأوروبيّ! وقد اعتذر غير واحد لبلاسيوس عن بعض أحكامه المتعسفة تجاه التصوف الإسلامي، فإلى غيرنا (نحن العرب والمسلمين) كان يكتب، فعل ذلك الدكتور الطّاهر مكّي، والباحثة الفرنسية كلود عدّاس.
ظلّت أعمال بلاسيوس عن التصوف الأندلسي هي الموجّهة لأفكار الدارسين للتصوف في المشرق، رغم أنّ جزءًا من الإنتاج المنشور في الدوريات العربية كان قد قدّم نقدًا علميًا لها، لكنّه لم يلق ذيوعًا بين الباحثين في هذا المجال، حتى صدر عمل الدكتور محمد كمال جعفر عن ابن مسرة الأندلسي، والذي حقّق فيه رسالتين لابن مسرة، جذبت أنظار الباحثين في إسبانيا والمغرب، فترجمت نشرته للعمل إلى الإسبانية، وتمّت الاستفادة من تحليلاته ودراسته للعمل، لأهمية دراسته التي ردّ فلسفة ابن مسرّة فيها إلى منابتها الأولى، وقد أحسن غير واحد من المهتمين في المغرب والأندلس وفرنسا وأمريكا بتطوير أفكارهم عن ابن مسرة تبعًا لذلك، نذكر منهم على سبيل المثال: عبد الواحد العسري، ومانويلا مارين، ودومينيك إيرفوا، وكلود عدّاس، وآخرهم سارة سترومسا في مقالها: ابن مَسَرَّة وكتابه الثالث (توحيد الموقنين) المنشور في "دليل أكسفورد  للفلسفة الإسلاميَّة" 2017 وكتابها الفلسفة الإسلامية واليهودية في الأندلس الصادر في برينستون 2019 والتي تناولت فيه بالدرس متصوفة الأندلس.
استطاع المغاربة بالتواصل مع الإسبان بحثًا ومناقشة وترجمة لأعمالهم أنْ يطوّروا الكثير من الدراسات العربية حول الإسبانيات سواء ما اتصل بالتاريخ أو بالأدب أو بالتصوف أو بإحياء التراث، ورغم ما تتسم به حركة التأليف من شتات وتفرّق فكلّ باحث يعمل في حقل معرفي على استقلال ثم يغادره أحيانًا إلى اهتمام آخر، إلا أنهم لم يقطعوا مع الدراسات السابقة كما هو الحال عند المشارقة، وتظهر أعمالهم جدّة وأصالة ، ونضرب على ذلك مثالاً فيما يتصل بموضوع التصوف بعمل الراحل محمد إبراهيم ألوزاد: نشأة الفكر الفلسفي في الأندلس: تمهيد لدراسة العقلية الإسلامية في المغرب، ودراسته عن حضور مذهب ابن مسرة في الأندلس خلال القرن الرابع الهجري. وعمل الدكتور عبد السلام غرميني المدارس الصوفية المغربية والأندلسية في القرن السادس الهجري، الصادر عام 2000.
لكن التناول مختلف في المشرق اليوم، وينهض مثالاً على ذلك دراسة (أكاديمية) أنجزها أحد الباحثين عن ابن مسرة والمسرية الأندلسية: تمهيد في تطور الدرس الحديث لابن مسرة وأثره في التصوف 2018، إنّ عنوان الدراسة يوحي بتناول الباحث ما آلت إليه الدراسات الحديثة في تناولها لفكر المتصوف الأندلسي، إلا أنّه لم يفعل ذلك وراح يكرر الجهد الذي سبقه إليه غير واحد من الباحثين المصريين وأهمهم الدكتور محمد كمال جعفر. كما أنّه لم يطالع البحوث التي تناولت ابن مسرة الصادرة في المغرب، أو مصر، أو لبنان! إن عملاً واحدًا من هذه البحوث كان كافيًا لأن يجعل لبحثه صورة أخرى غير التي آل إليه، ونحيل هنا على بحث  كلود عداس عن التصوُّف الأندلسي وبروز ابن عربي، كما نحيل على بحث عبد الواحد العسري الذي قدّم نقدًا لدراسة محمّد كمال جعفر، ونقتبس من كلامه الفقرة التالية: "لقد تبلورت دراسة كمال جعفر لابن مسرّة، إلى جانب نزعتها الفيلولوجية، داخل رؤية للتاريخ، ولتاريخ الأفكار ينتظمها هاجس رصد الوحدة والاستمرارية: وحدة الفكر الإسلامي المرقي واستمراريته في الفكر الإسلامي الأندلسي. فهذه النظرة التجزيئية والتعاقبية في آن واحد لتاريخ الأفكار تؤدي بالضرورة إلى طمس الخصوصية خصوصية ابن مسرّة في حالتنا، وإلى العودة بموضوع دراستها إلى تاريخ كلّي وواحد وشامل؛ يسنده نظريًّا ومنهجيًّا، مفهوم التقدّم الذي يعبر عليه كذلك عادة بالتطوّر".
لم يكن التصوف في الأندلس نزوعًا سلبيًا يقوم على اعتزال الناس واجتنابهم وعدم الاكتراث بأمورهم، ولكنّه كان إيجابيًّا نشطًا وفعّالًا في المجتمع الأندلسي، اهتم الصوفية من خلال التزامهم بالتصوف كأسلوب في السلوك والأخلاق بشؤون مجتمعهم وساهموا في حركته الحياتية كما اهتموا بحياة الناس وأحوالهم، فكانوا يعلّمون أهل الأندلس أمور دينهم ويدافعون عنهم ويتصدّون لمظالم الحكّام، ويشجبون في غير لين وهوادة الظلم والاضطهاد الذي مارسه أولئك الذين تولوا الوظائف الرسمية، ومما رصدته مانويلا مرين في دراستها عن الزهاد الأوائل في الأندلس رفضهم تولّي الوظائف العمومية مثل القضاء، وتجنّبهم الاتصال بأولئك الذين يمثلون السلطة السياسية، بل في كثير من الأحيان حينما تبعث السلطة بممثل لها إلى باب الزاهد أو المتصوف يتركهم ينتظرون ويعاملهم معاملة غيرهم من العوام.
التفت الدارسون في إسبانيا والمغرب ولبنان إلى نقاط مضيئة في التصوف الأندلسي، فوجدنا اهتمامًا بثورة الصوفية، وموقفهم من السلطة، واللقاء بين المتصوفة والفقهاء وأهل الحديث، لذا لم يكن غريبًا أن تتوجّه أنظار الكثيرين لهذا الجانب الروحي في الأندلس بعد دراسات الأب بول نويا عن ابن العريف وابن برجّان، ودراسة جورج كتّوره عن التصوف والسلطة والمجتمع في الأندلس. لكن يقتضي الأمر منّا اليوم أن نكون أكثر صبرًا وتمهّلاً في دراسته فضلاً عن إصدار الأحكام في شأنه!


تعليقات

المشاركات الشائعة